سأكتب اليوم رسالة لأحمد, لأنه كان عصبيا للغاية منذ يومين, اعتقد أنه يفيق شيئا فشيئا، فيدرك أن كثيرا من الأشياء قد فاته.
مضى العالم سريعا جدا في السنوات الأربع التي مضت.. اقول له كثيرا إن ما فاته لم يكن جميلا على الإطلاق, ثم اتذكر أنه ربما كان يعجبه أن يكون موجودا في قلب ما حدث.. أحمد دائما يحب أن يكون موجودا في قلب العاصفة, فلاحك له إذن ما حدث.
لم تمنحنا تلك الليلة أي فرصة للنوم.. كان صوت طلقات الرصاص يملأ محيط وسط البلد.. أحمد كان قد اختار وسط البلد مكانا لسكننا الجديد, كان يريد أن يكون اقرب ما يكون للتحرير (الميدان) كان يحب –حقا- أن يكون في وسط العاصفة, في ساعات الفجر الأولى ترجلت حتى الميدان, كانت الدماء ما تزال طازجة في أركان الميدان, ادور والف بلا هدف, كنت افعل كل شئ بلا روح, منذ غادرتنا إلى غرفة العناية المركزة، وأنا افعل كل شئ بلا روح, تشكو أنت الآن من غياب روحي, إن روحي غائبة هنالك في روحك الغائبة.
لم يمر وقت طويل حتى تدافع الناس للميدان, دعوت الله أن تشفى, كنت اعتقد أن الدعوة مستجابة في الميدان وسط الجموع, لم امكث طويلا في الميدان، غادرت لالحق بموعد المستشفى, كنت مشدودة تماما للمستشفى، فكل حياة خارجها لم تعن لي شيئا.
بعد أيام اشترينا “بوتجاز” لشقة وسط البلد التي لم يكن بها بوتجاز بعد, لم يكن امداد الشقة بالغاز مسألة سهلة.. أنت تعرف تعقيدات الروتين في مصر.. اشتريت لحما وطهوت لهم شوربة خضار, كانت رائحة الحساء مبهجة, كان الأولاد يفرحون بعودة مظاهر الحياة لبيت أنت غائب عنه.. مرت الأيام.. طهوت مزيدا من الطعام, كنت اطهو لك كثيرا طعاما مخصصا للمستشفى، لكن الممرضات كن يهملن امداداك به عبر أنبوب الاطعام الموصول عبر أنفك حتى المعدة, كما اشتريت شجرة فل وياسمين وورد وملأت بهم شرفة شقة وسط البلد كي تكون جاهزة لاستقبالك, جفت الزهور سريعا, ربما لم اكن جاهزة تماما للاعتناء بهم, لم تعد أنت أيضا لشقة وسط البلد التي لم نلبث أن غادرناها سريعا.
انتقلنا للسكن في الشيخ زايد فقط كي اكون بالقرب من المستشفى, صرت سعيدة جدا إذ صار بإمكاني أن استيقظ من النوم، فاصعد للاطمئنان عليك بالمستشفى قبل أن يبدأ اليوم, واعود في المساء لأطل عليك أيضا قبل أن اعود للمنزل.. كنت تفيق تدريجيا، ولم اكن اعي لأن كل إفاقة كانت تحمل مزيدا من الصعوبات.. كنت ارى هذا فلا ادركه, كنت اعدو في ماراثون استعادتك بأي ثمن.
اتذكر تلك المرة الأولى التي انتبهت فيها لصوت سارة, وحركت رأسك باتجاهها, يومها, كان حمزة في المقابل يبكي كلما اقترب منك, ونور كانت خائفة بلا بكاء, سارة وحدها كانت من تمتلك شجاعة الاقتراب من ابيها النائم الذي لم يعد يشبه اباها الذي تعرفه, اقتربت منك وقرأت لك القليل من القرآن الذي تحفظه.
توقف قلبك في المستشفى, هل تعرف هذا؟ كنت امسك بك ساعتها حتى اسهل للطبيب ادخال الحقنة من خلال ظهرك إلى الرئتين, حين تبدى للطبيب مدى خطئه قام بطردنا من الغرفة سريعا جدا, كان الأطفال حولي وكنت تائهة, ماذا افعل بهم؟ ارسلتهم لأمك التي لم اعرف ماذا اقول لها هي الأخرى وهي تراني ارتعد؟! كنت اهتز فعليا من الخوف, انزويت في ركن صغير من مسجد المستشفى وواصلت البكاء, في هذا اليوم رأتني ممرضة كانت دائما ما تسئ معاملتي لأنني لا التزم بقواعد ومواعيد الزيارة في المستشفى, اعتقد أنها تغيرت معي منذ ذلك اليوم.
اعلم يا عزيزي أن رحلتك لم تكن سهلة على الاطلاق, لا شك وأنك اختبرت مشاعر يصعب علي فهمها, فبالبقاء بصمت لمدة طويلة في هذه المساحة الغائمة -بين الموت والحياة- لا شك أنه أمر مرير.. مرير أكثر مما يحملنا إليه خيالنا من المعاني, لكنني يا عزيزي اشتريت لك مزيدا من الزهور في شرفة شقتنا في الشيخ زايد, كنت اشعر أن هذه الزهور لم تعن لك شيئا, طهوت لك كثيرا من الطعام, تمشينا كثيرا معا من أجل أن تستعيد قدرتك على المشي.
هل تعلم يا عزيزي أنني حاربت الموت من أجل أن استعيدك؟ حاربته حتى أصابني قبس منه, كأن شيئا من الزرقة سكن في قلبي, ما همني إذا ما سكن الموت زاوية في روح, ما همني إذا لم يكن هذا الموت الذي يسكن قلبي هو الذي يجعلك اليوم غاضبا مني.