مجلة نيويورك تايمز نشرت منذ أيام موضوعا ضخما ومهما عنوانه: “إيه اللي نعرفه بجد عن موت أسامة بن لادن؟”، المقال بيطرح أسئلة أكتر ما بيقدم إجابات نموذجية، ودي محاولة لتلخيصه بالعامية المصرية.
في أول مايو 2011 الإرسال انقطع عن ماتش بيسبول علشان يذيع خطاب مهم وتاريخي لأوباما، الخطاب لحظتها كان بيعلن عن الانتصار الأبرز للولايات المتحدة طوال حربها على الإرهاب: مقتل بن لادن، بعد الخطاب بـ 5 دقايق بس اتصل (مايك ستينسون Mike Stenson) -رئيس شركة المنتج السينمائي العظيم “جيري بروكنهايمر”- بالكاتب (مارك بودين Mark Bowden) يقول له “جيري عايز يعمل موضوع بن لادن ده فيلم، وعايزك تكتبه”، بودين كان متخصص في تأريخ العمليات السرية، زمان نشر كتاب مبيعاته كانت جبارة عن الغارات الأمريكية اللي نفذتها في الصومال 1993 وأخفقت بشكل كارثي، في ظرف سنتين جيري بروكنهايمر أخد الكتاب وحوله لفيلم أخد الأوسكار 2002، والفيلم اتحول لفيديو جيم شهيرة جدا: Black Hawk Down (سقوط الصقر الأسود).. وبخلاف كتابه ده (بودين) عمل كتب تانية من نفس النوع منها Killing Pablo عن المطاردة الطويلة لإمبراطور المخدرات الكولومبي بابلو اسكوبار و Guests of Ayatullah عن عملية التحرير الفاشلة للرهائن الأمريكيين في إيران بعد الثورة الإسلامية، في الكتب دي (بودين) كان بيجمع بين إعداد التقارير الشاملة للأحداث وبين رواية القصص الحية من ألسنة اللي عاصروها، وكان بيكتب عن الحادث بعد وقوعه بسنين، اللي هي فترة تسمح بإن الشهود يقعدوا ويتكلموا بحرية وهدوء وكل شاهد يقودك لشاهد تاني غيره.. وهكذا، ببساطة: مارك بودين كان شخص مناسب جدا للكتابة عن عملية قتل بن لادن، صحيح بروكنهايمر غيّر رأيه في موضوع الفيلم، لكن بودين قرر يكتب الكتاب على أي حال.
سرد القصة كان صعب، الحدث كان يادوب مر عليه شهور بس، عدد قليل أوي من المسؤولين الحكوميين والعسكريين وفريق “نيفي سيل” بتاع البحرية الأمريكية كانوا مطّلعين على أحداث اليوم ده، مفيش أي تتابع ورقي ممكن يمشي وراه، وكمان كل المستندات كانت classified (محظور الإطلاع عليها) بما فيها محاضر بحث وكالة الاستخبارات المركزية عن بن لادن، بودين اضطر يمشي رسمي، يطلب مقابلة المسؤولين ويسمع شهاداتهم، وفي 2012 نشر الكتاب وكان عنوانه The Finish وكانت قصته هي القصة المهروسة دلوقت في كل مكان، القصة اللي بدأت بمقال بلاغي بيتغزل -بطريقة سينمائية- في البسالة الأمريكية كتبه الصحفي الحر (نيكولاس شميدل) للنيويوركر بعنوان Getting Bin Laden: What Happened That Night in Aboottabad” بعدها بـ 3 شهور، وفي 2012 نشر (مات بيسونيت) -أحد أفراد النيفي سيل اللي نفذوا العملية- كتاب بعنوان No Easy Day، وفي نفس السنة اتعرض فيلم Zero Dark Thirty بنفس المضمون (بالإضافة حتى لتأريخ التحقيقات البربرية اللي أجرتها وكالة الاستخبارات أثناء شغلها على ملف بن لادن).
بيقولوا إيه بقى في القصة دي؟ بيقولوا إن الاستخبارات المركزية فضلوا سنين يشتغلوا في صمت علشان يوصلوا لأسامة بن لادن، لغاية ما اتعرفوا على جاسوس ظباط مؤسسته توصلوا لكومباوند ضخم في أبوت آباد (باكستان)، الاستخبارات راقبت الكومباوند بالأقمار الصناعية بس ماكانتش متأكدة تماما إن “بن لادن في الحتة دي” فعلا، بس ماكانوش عايزين يفوتوا الفرصة بأي شكل، كان من الحلول الواضحة قنبلة أو صاروخ يسوّي الكومباوند بالأرض، بس ده كان ممكن يتسبب في ضحايا مدنيين وكان هيخللي من المستحيل التأكد إن بن لادن مات، فأوباما قرر يبعت 23 واحد من فريق “نيفي سيل Navy SEAL” في طيارتين هيليكوبتر، صحيح المهمة كلها كانت هتفشل لما طيارة منهم ارتطمت بالأرض جنب حظيرة حيوانات جوا الكومباوند، لكن الفريق قدر يخرج ويكمل الهجوم، اخترقوا البوابات بعبوات من مادة السي فور شديدة الانفجار وقتلوا هدفهم، وقبل ما يمشوا فجروا الطيارة اللي وقعت في الكومباوند، ومع رحيلهم كان حريق هائل بيلتهم المكان، وكل ده والحكومة الباكستانية وجيشها غايبين تماما عن المشهد.
سيمور هيرش يظهر
سيمور هيرش هو الصحفي الأمريكي الكبير اللي غطى مذبحة “ماي لاي My Lai 1969″ اللي ارتبكها الجيش الأمريكي في فيتنام وصاحب سلسلة المقالات المؤثرة اللي اتكتبت عن ملف التعذيب في أبو غريب اللي استنبط منها إن التعذيب كان بأمر وكالة الاستخبارات الأمريكية نفسها علشان السجين ينهار في التحقيقات، (هيرش) اتصل ببودين يسأله عن صور دفن جثمان بن لادن في البحر (وفقا للشريعة الإسلامية زي ما الحكومة الأمريكية بتقول)، الصور دي كان بودن واصفها بشوية كلام بلاغي: “إحداها تُظهر الجثمان مسجيا في كفن ذي ثقل”، هيرش سأله “إنت شفت الصور دي يا بودين؟”، بودين قال: “لأ، بس فيه حد شافها وحكى لي”، فهيرش قاله إن مفيش صور ولا حاجة، وإن أمريكا فبركت الرواية الشائعة دي كلها عن الموضوع كله، وإنه هو اللي هينشر حقيقة اللي جرى في أبوت آباد.
ظهور سيمور هيرش في القصة هيبدأ يطرح عدد من الأسئلة المهمة، أولها: هل أوباما استفاد سياسيا من مقتل بن لادن؟ ماحدش يقدر ينكر ده أبدا، أوباما وصل لفترته الرئاسية الأولى في صورة الرئيس الطري الكيوت اللي هيقفل جوانتنامو ويسحب الجيش الأمريكي من العراق وأفغانستان..إلخ، بس قبل انتخابات الإعادة ماكنش يقدر يفوز تاني بنفس الوش لوحده، مقتل أسامة بن لادن -قبل الانتخابات الرئاسية 2012 بشهور- كان إضافة مهمة جدا لشعبيته، لأنه أضاف له وش تاني خشن كتير من الناخبين الأمريكان كانوا محتاجينه علشان يختاروه قصاد رومني، ولأن عملية قتله كانت عملية نضيفة وزي الفل؛ القتيل هو أكبر إرهابيي العالم وعملية قتله ما تضررش منها أي أبرياء -حسب الظاهر- فالموضوع كان مكسب كبير لأوباما بين الجميع.. لدرجة إن جو بايدن استخدمها بشكل صريح في الدعاية الانتخابية: Bin Laden is dead, General Motors is alive، وكمان كان مكسب لسمعة وكالة الاستخبارات المركزية بعد سنين من الاتهام بالفشل.
أما نفسية الأمريكان، فاتأثرت كتير باللحظة دي، مقتل بن لادن كان النهاية الرمزية الوحيدة اللي ممكن تحققها البسالة الأمريكية (أو الـ 23 بطل بتوع السيل تيم) لحرب ضبابية كانت بتتوصف أحيانا بإنها إسهام أخلاقي -من أمريكا للعالم- وأحيانا بأنها عار جماعي، ومشهد أوباما أثناء إلقاء خطاب 1 مايو كان بيقفل القوس التاريخي اللي اتفتح بمشهد انهيار 11 سبتمبر في أذهان الناس.
ظاهر الرواية الرسمية للعملية يبان في إطار واحد متماسك وواضح وبتاع، بس في الحقيقة هي عبارة عن اسكيتش كل جهة من الجهات التلاتة: البنتاجون والبيت الأبيض والاستخبارات المركزية، حطت التجويدة بتاعتها فيه لدرجة إنك لو درست الاسكيتش ده عن قرب هتحس بإن فيه حاجة مش مظبوطة.. مثلا: جون برينان -مستشار أوباما لشؤون الأمن القومي- قال في الأول إن بن لادن تبادل إطلاق النار مع القوة الأمريكية، وبعدها طلع إنه كان أعزل لحظتها أصلا، واتقال إنه استخدم إحدى زوجاته كدرع بشري وبعدين اتنفت النقطة دي، حتى شميدل -الصحفي الحر اللي أول من كتب عن العملية- قال إنه عمره ما قابل ولا واحد من الـ 23 واحد اللي نفذوا العملية، وحتى شهادة (مات بيسونيت) نفسه بعض تفاصيلها بتتعارض مع شهادة زميله (روبرت أو نيل) اللي طلع في الإعلام وقال إنه صاحب الرصاصة القاتلة! أما المسؤولين فطلعوا للصحفيين يقولولهم إن مشاهد التعذيب اللي في فيلم Zero Dark Thirty مالعبتش أي دور في العثور على بن لادن.
نييجي بقى لأكتر حتة وِسعِت منهم.. المطلوب مننا نصدق إن أوباما خاطر بـ 23 ظابط وبعتهم في مهمة انتحارية مخترقين المجال الجوي الباكستاني من غير أي غطاء جوي أو بري ونزلوا بالسرعة والسهولة دي للكومباوند اللي لو كان فيه بن لادن فعلا كان زمانه متلغم حراسات؟ لأ وكل ده -وفقا للرواية الرسمية- تم من غير أي تنسيق أو حتى ضمانات من الجيش والمخابرات الباكستانيين اللي العملية تمت في مدينة قريبة من المواقع العسكرية الباكستانية؟ بلاش الجيش، الشرطة العادية، ماحسوش إن فيه طيارة أمريكية ضخمة سقطت؟ وإزاي بنتعامل مع اللي حصل على إنه كان غارة خفية شنتها وحدة عمليات خاصة سرية أصلا؟
التاريخ الأمريكي حافل بقصص حروب ما اتحلش لغزها، شوف مثلا ادعاءات إدارة بوش بإن صدام عنده ترسانة أسلحة دمار شامل، أو حادثة تونكين المثيرة للجدل (1964) اللي تذرعت بيها الولايات المتحدة في تصعيدها ضد فيتنام، وأثناء أزمة خليج الخنازير The Bay of Pigs 1960 الحكومة الأمريكية ضخمت أعداد المقاتلين اللي بعتتهم علشان تشجع المواطنين الكوبيين إنهم يثوروا ضد فيدل كاسترو، لكن لما فشلت العملية أمريكا رجعت قللت الأعداد وقالت “ده ماكنش غزو، دا كان مجرد محاولة متواضعة لتقديم المساعدات للمقاتلين في حرب العصابات الداخلية”، وقصة قريبة كانت إن بات تيلمان -لاعب كرة القدم الأمريكية اللي كان جندي من المبعوتين لأفغانستان- اتقتل برصاص طالبان، قبل ما يطلع زميله بعد كده ويعترف بإنه هو اللي اتسبب في قتله بنيران صديقة.
القصص اللي زي دي عمر ما كانت هتوصل للناس إلا بمساعدة الإعلام، أثناء حرب العراق مثلا الصحفيين قالوا إن حشد من العراقيين المبتهجين أسقطوا تمثال صدام حسين، لكن الحقيقة إنهم كانوا كام نفر وجابوا ونش من الجيش الأمريكي علشان يساعدهم يوقعوا التمثال، الصحفيين برضه عملوا من الجندية الأمريكية “جيسيكا لينش” بطلة قاومت خاطفيها وبتاع، بينما الحقيقة إن الذخيرة اتحشرت جوا سلاحها وفِضلت جوا عربيتها الهامفي، وكتب بعدها (مارك بودين) نفسه في افتتاحية التايمز يقول إنه كان ميل مننا في إننا ننسج من المعلومات القليلة اللي نعرفها قصة شبه الأفلام.
هل قصة مقتل بن لادن مثال جديد لصناعة الخرافات داخل أمريكا؟ هل بودين -وإحنا كلنا معاه طبعا- اتغرر بينا برواية متفبركة علشان مصلحتنا؟ ولا الأسئلة دي كلها مجرد بارانويا؟
هيرش بيقول: “الموضوع ريحته بانت من أول يوم”، وكتب مقال من 10 آلاف كلمة -مصدره فيه مسؤول استخباراتي مرموق ومتقاعد حاليا و2 مستشارين اشتغلوا فترة طويلة مع قيادة العمليات الخاصة-.. هيرش بيدحض فيه الرواية الحكومية للعملية وبيحولها من قصة للمثابرة طويلة النَفَس والتخطيط الحريص والشجاعة وبتاع لقصة مليئة بالحظ والانتهازية ومجرد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، هيرش بيطلب مننا نبص مثلا لنظام الرادار الباكستاني اللي أرقى بكتير من إنه يسمح لطيارتين أمريكيتين يدخلوا المجال الجوي من غير ما يُكتشفوا، وبيقول بسخرية “يا أخي الجماعة بتوع العالم التالت دول ما عندهمش حاجة شغالة صح أبدًا!”، فوفقا لهيرش: باكستان كانت واعية تماما بالطيارتين، طيب، إزاي تم العثور على بن لادن أصلا؟ الموضوع مش إن سنوات مضنية من جمع المعلومات الاستخباراتية قادتنا للجاسوس، الموضوع إن فيه دخيل على الكومباوند -ظابط مخابرات باكستاني متقاعد- كان بيجري ورا الـ 25 مليون دولار مكافأة اللي أمريكا وعدت بيها أي حد يقول على مكانه، وإن ده معناه إن بن لادن ماكانش في مخبأ خالص، دا معناه إنه كان مكان آمن ومتأمن بالاتفاق مع المخابرات الباكستانية، ولما أمريكا واجهت مسؤولين باكستانيين بالمعلومة دي اعترفوا بإنها صحيحة وتنازلوا حتى عن طلب عينة من الحمض النووي لإثباتها، فوفقا لهيرش: الغارة الجريئة ماكانتش جريئة ولا حاجة، الباكستانيين سابوا الطيارات تدخل مجالهم الجوي وصرفوا الحراسات اللي على الكومباوند من قبل وصول الفرقة الأمريكية، ووفقا لمصادر هيرش: أوباما كان متفق مع الحكومة الباكستانية إنهم يستنوا أسبوع وبعدها يعلنوا إن بن لادن اتقتل في منطقة جبلية وبتاع، بس أوباما اضطر يطلع بالبيان بعدها على طول بسبب الطيارة اللي حطامها كان قطعًا هيفضح كل حاجة.. هيرش كمان بيشطح شوية ويقول إن بن لادن ماتدفنش وفقا للشريعة الإسلامية وإنما اترمت أشلاؤه من الطيارة، وقال مش بس إن باكستان احتجزت بن لادن من 2006، لأ السعودية كمان هي اللي صرفت على حمايته طول الفترة دي، وإن أمريكا أمرت باكستان بحبس شخص بريء ككبش فداء للظابط الكبير في الجيش الباكستاني اللي جمع الحمض النووي بتاع بن لادن.
الغريب إن الكلام ده مش طالع من حد جاي من الشارع، دا واحد من أعظم الصحفيين الاستقصائيين الأمريكيين، واللي له تاريخ طويل من التحقيقات الصحفية الكبيرة (مذبحة ماي لاي والتعذيب في أبو غريب)، هل ممكن مقالة بن لادن تبقى سبق صحفي جديد له؟ (بودين) بيقول “كل شيء جايز، بس لما تبص لعدد الناس الكتيرة اللي كلمتهم من كل هيئات الحكومة، إن الكدبة تبقى متساوية أوي كده، ده بيفكرني بحكاية إن هبوطنا على القمر كان متفبرك”، (بيتر بيرجين Peter Bergen) -محلل الأمن القومي في CNN- قال في كتابه Manhunt عن مقتل بن لادن: “الحقيقي في القصة مش جديد، والجديد في القصة مش حقيقي”، أما المسؤولين الحكوميين فكانوا الأقل تجاوبًا مع مقال هيرش واتهموا روايته بالأخاليق والفبركة وعدم الدقة، واكتفوا بالأوصاف دي بس، رغم إن (هيرش) أشار لوثائق نشرها إدوارد سنودين (اللي اتعمل عنه فيلم Citizenfour وأخد أوسكار أفضل فيلم وثائقي 2015) وفيها وكالة الاستخبارات كانوا بيراقبوا كمباوند أبوت آباد لفترة طويلة، وإن ده دليل إن اكتشاف المكان ماكانش مجرد صدفة قادنا إليها دخيل.
بس (هيرش) متعود على التكذيب ده، أيام أبو غريب طلع المتحدث باسم البنتاجون يوصف مقال من مقالاته بإنه أكتر مقال هستيري شافه في حياته من حيث التزوير الصحفي، وهو قال “مفيش سبب يخليك تصدق أي كلام قالتهولي مصادري -غير المكشوف عن هويتها- على ظاهره، زي ما مفيش سبب يخليك تصدق أي حاجة يقولها -رسمي أو مش رسمي- المتحدث باسم الحكومة أو البيت الأبيض أثناء أو بعد الأزمة”
السؤال: هل (هيرش) ممكن يكون بيخرف فعلا؟
هنا نقطة مهمة، هيرش طول عمره بينشر في ذا-نيويوركر، ليه المقالة دي بالذات اتنشرت في The London Review of Books؟! هيرش قال لإدارة ذا-نيويوركر إن مصادره بتقول الحكومة كدبت في قصة قتل بن لادن، ذا-نيويوركر بعتوا صحفي من هناك يغطي الجانب الباكستاني علشان مقال هيرش، لكنه راح وماقدرش يوصل لحاجة، وكتب موضوع تاني عن صحفي باكستاني اتقتل ومزعوم إن المخابرات الباكستانية هي اللي قتلته بعد ما كتب عن تفاصيل العلاقات بين المسلحين الإسلاميين وبين الجيش هنا، في نفس الوقت ذا-نيويوركر نشرت مقال (شميدل) اللي شاف بإن التحقيق البديل أكد روايته الأولى برضه، وإنه وارد يكون ناس جوا الجيش الباكستاني أو المخابرات عارفين بإن بن لادن عايش هنا، كله وارد، بس مفيش دليل عليه.. (هيرش) قرر يشتغل الموضوع لوحده، وبعد ما عمل مسودة وبعتها للمجلة، قالوا له إن الموضوع لسه مش متفحفر فيه كفاية وإنه محتاج يجمع معلومات أكتر، فنفض لهم، وراح نشرها في مكان تاني. رفض ذا-نيويوركر مش أول مرة يحصل، في 2013 (هيرش) قال إن هجوم غاز السارين القاتل نفذه الثوار السوريين -بالتنسيق مع النظام التركي!- مش نظام بشار الأسد، وبرضه راح نشره في نفس المكان لدرجة بتثير تساؤلات: إزاي صحفي استقصائي كان أسطوري في لحظة من اللحظات انتهى بيه المطاف بيدور على الإثارة أكتر من الدقة بالشكل ده؟
الصحفي الاستقصائي سيمور هيرش
هل لازم نثق في مصادره اللي مش مكشوف هويتها؟ موضوعه عن أبوغريب صحيح كان معتمد على تقرير داخلي جوه الجيش، لكن أهم اللي تم كشفه كان على إيد بيروقراطيين من درجات متوسطة وسفراء ورؤساء مكاتب الاستخبارات وجنرالات بأربع نجوم وكانت هوياتهم معروفة بس لرئاسة التحرير والمراجعين، صحيح إن من الأدوات الأساسية للمراسلين وعده بعدم كشف هوياتهم، وإن ده غير مسار التاريخ (في أزمة ووتر جيت مثلا)، بس برضه ده هيثير شكوك إزاء دوافع المصادر دي وبالتالي مصداقيتها.
مشكلة أن تكون صحفيا استقصائيا في موضوعات متعلقة بالأمن القومي:
فيه مخاطر كامنة دايما في إن مهنتك تبقى هي النَخْوَرة ورا الحكومة وأعمق أسرارها، الصحفيين الاستقصائيين مابيكونوش موجودين وقت وقوع الحوادث دي، وكمان بيشتغلوا عليها غالبًا من غير مستندات ولا صور، وأصعب الحقايق اللي بيوصوا لها بتكون من على ألسنة مصادر بترفض الكشف عن هويتها، وبيكون مطلوب منهم إنهم يقرروا: هياخدوا بأنهي أصوات وحقايق، وإزاي ممكن يجمّعوا الماتيريال دي علشان يوصلوا لرواية متماسكة ودقيقة، وخلال اتخاذ القرارات دي أتخن صحفي منهم ممكن ينسى تفصيلة أو يتّكى على حقايق مغلوطة، بيقول (ستيف كول) -الكاتب وعميد كلية الصحافة في جامعة كولومبيا- “إحنا مش عايزين سمعة الصحفي الاستقصائي إنه يكون صح 100 % طول الوقت، بس ع الأقل يكون في أغلب الأوقات صح، إنه يكون ماشي في اتجاه صح”، وفي قضية مقتل بن لادن بيقول “في حالتي، الجاسوس اتوصف لي بإنه كان ظابط بعينه في المخابرات الباكستانية، أنا حتى معايا إسمه وشغال عليه بقالي 4 سنين”، فكرة وجود دخيل تمشي برضه، لاحظ إن المخبرين السريين وصلوا أمريكا لكل الإرهابيين الكبار في باكستان، منهم رمزي يوسف اللي كان أول من فجر برج التجارة العالمي، وايمل كانسي اللي قتل اتنين من الاستخبارات المركزية 1993، أقصى حاجة (كول) قدر يوصل لها كانت ظابط استخبارات أمريكي اشتغل مع المخبر ده، (كول) سأله: “إنت تعرف الجدع ده؟”، قال “آه، اشتغلت معاه فترة عن قرب”، فسأله “هل هويته اللي بقولها دي دقيقة؟”، فقل “أيوة”، فقال “أنا عرفت إنه أخد الـ 25 مليون وإنه دلوقتي تحت الحماية كشاهد”، فالظابط الأمريكي سكت شوية وبعدين قال “هممم، هو زمانه عمل كده فعلا”.
هل باكستان كانت بتأوي بن لادن فعلا؟
صعب نصدق إن المسؤولين الباكستانيين الكبار ماكانوش عارفين، بس بعد قتل بن لادن باكستان أجرت تحقيقاتها عن الحادث ونتائج التحقيقات دي اتسربت لقناة “الجزيرة” 2013، وكان استنتاج لجنة تقصي الحقائق بإن باكستان ماكانتش بتخفي بن لادن، وإن بن لادن كان بيبرطع براحته في باكستان بسبب قلة كفاءة الجيش والمخابرات الباكستانيين، لكن مراسلة التايمز (كارلوت جال) بتقول إن المخابرات الباكستانية كانت مشغّلة مكتب كامل على ملف بن لادن، طبعا كل وحدات المخابرات الباكستانية أنكرت وجود المكتب ده، بس اتقال لها بإن كبار قادة الجيش كانوا عارفين.
طيب، هل باكستان كانت عارفة بالعملية قبل ما تتنفذ؟ طب سهلتها أو سمحت بيها؟ أولا دا بيتطلب مننا إننا نصدق بإن أمريكا وثقت في مساعدة باكستان، ثانيا ده هياخدنا لموضوع اتنشر في موقع (جلوبال بوست) الأمريكي وعنوانه كان “غارة بن لادن: الجيران بيقولوا إن الحكومة كانت عارفة”، واستعان الموضوع بشهادات بعض جيران الكمباوند بيقولوا إن أفراد من الأمن بملابس مدنية راحوا يخبّطوا على أبوابهم ليلتها وأمروهم بإنهم يطفوا الأنوار وما يطلعوش من بيوتهم إلا لما يقولوا لهم، وكان فيه تعليمات على السكان المحليين بإنهم ما يتكلموش مع الإعلام وخاصة الأجنبي، مدير التحرير في (جلوبال بوست) بيبعتنا للمراسل الباكستاني “عامر لطيف” اللي راح تاني يوم العملية يغطي من أبوت آباد، لما سألناه “هل المسؤولين الباكستانيين كانوا عارفين؟”، فقال “مش بس عارفين، دول نسقوا وتعاونوا”، وإن “البلد كلها كانت صاحية، ومفيش غير الجيش اللي كان نايم؟”، وإن الجيران سمعوا الانفجار واتصلوا بالشرطة المحلية، بس قادة الجيش طلبوا من الشرطة تقعد على جنب وتسيب الجيش بس هو اللي يتعامل، والفرقة الأمريكية فضلت على الأرض 40 دقيقة، ومع ذلك الجيش ماوصلش إلا بعد ما كانوا مشيوا.
(كارلوت جال) -مراسلة التايمز- بتخمن إن أمريكا نبهت باكستان ع الحُركرُك، وقالت “أنا متخيلة السيناريو كده، الأمريكان حطوا عينهم عليه من غير ما يقولوا للباكستانيين لأنهم ما بيثقوش فيهم، لكن اللحظة اللي قرروا فيها ينفذوا الغارة أظنهم راحوا للجنرال أحمد كياني وأحمد باشا وقالوا لهم “إحنا داخلين، ولو فيكم دكر يلمس الطيارتين اللي هيدخلوا أو أي حد فيهم”، رأي (جال) مفيش صحفي استقصائي إلا ومقتنع بيه تمامًا، بعد العملية الحكومة الباكستانية كان لازم تختار حاجة من اتنين: تعترف بتعاونها ده وتدخل في خصومة مع المتشددين بسبب خيانتها لأسامة بن لادن، أو تعترف بجهلها وقلة كفاءتها، والحكومة جابت ورا وقالت “إحنا مش أكفاء”.
(روبرت بايرRobert Baer) -ظابط الاستخبارات المركزية اللي جورج كلوني استلهم منه شخصيته في Syriana، الفيلم العظيم المظلوم- قال “أنا عمري ما شفت البيت الأبيض بياخد مخاطرة زي دي، عايز تقول لي إن الرئيس صحي من النوم وقال لهم (أنا عايز أعمل حاجة صح قبل الانتخابات؟)، أوباما أذكى من إنه يعرض حياة 23 فرد من النيفي سيل في عملية اغتيال هوليودية كده”، فممكن (هيرش) يكون صح فعلا، طب وبعدين؟ كده باكستان حليفتنا المفترضة في حربنا على الإرهاب واللي بنصرف عليها من ضرايبنا مليارات الدولارات مساعدات سنويا كانت بتحمي ألد أعدائنا، وإن حكومتنا بتشتغلنا، بس هل دي حاجة صادمة؟ الحقيقة ده مش صادم مقارنة بالخداع وعدم الشفافية الحكومية اللي شملت -في آخر سنوات بس- التنصت السري على المكالمات والسجون السوداء غير الخاضعة للقانون اللي بتعملها وكالة الاستخبارات في الدول التانية، (ستيفن أفترجود) -عضو اتحاد العلماء الأمريكيين المتخصص بالسرية- بيقول “اللي شغالين في البيت الأبيض مش مؤرخين، مش علماء، ولا حتى صحفيين، هما بيعبروا عن كيان سياسي جوا الحكومة، فمش شغلتهم (والله-العظيم-أقول-الحق)، ولو شغلتهم كده فمش بالضرورة يقدروا يعملوها طول الوقت”، كلام (هيرش) برضه مش معناه إن الحكومة كلها متآمرة، الخرافات أحيانا بينتجها مجهود غير متناسق لناس ما بيعملوش أي حاجة غير شغلهم، وطبعا لو عدد كافي منهم بيحجب الحقيقة فده ممكن يبان تآمري، (هيرش) بيشير إلى إن فيه آلاف الموظفين والكتبة الحكوميين مثلا كانوا عارفين بإن وكالة الأمن القومي بتتنصت على المكالمات، بس إدوارد سنودن -اللي اتعمل عنه فيلم Citizenfour الوثائقي- هو الوحيد فقط اللي أخد خطوة وفضح ده.
مفيش سبب يخلينا نتوقع الحقيقة الكاملة من الحكومة عن قتل بن لادن، أوباما في خطابه في الأول قال إن باكستان مشكورة ساعدت الإدارة الأمريكية في الوصول لبن لادن وللكمباوند اللي كان عايش فيه، فسواء كان أوباما كدب في خطابه أو إدارته هي اللي كدبت في نفيها نفس النقطة لاحقا، فالأكيد إن “الحقيقة الكاملة” ماكانتش أهم عند أوباما أكتر من إدارة العلاقات الخارجية مع بلد حليف غير مستقر، ولو باكستان مش عايزانا نعترف بتعاونها معانا وقت تنفيذ العملية -خوفا من ردة فعل المتشددين- مش هنتكلم، لأن (هيرش) نفسه كتب قبل كده يحذر من انقلاب مرتقب ممكن ينفذه المتشددين ويستولوا على على مخزون أسلحتها النووية.
المشكلة مش إن حقيقة موت بن لادن لا يمكن معرفتها، هي يمكن معرفتها بس إحنا اللي لسه مش عارفينها، ومش لازم يبقى عندنا أمل أوي إننا نعرفها، إحنا لغاية النهاردة مش مسموح لنا نطلع على وثائق غزو خليج الخنازير اللي حصلت من 60 سنة، فما أدراك بحاجة حصلت من 4 سنين بس!
فيه طرق كتيرة للسيطرة على رواية الحوادث، الطريقة القديمة إنك تحظر إطلاع الناس على الوثائق اللي مش عايزها تتشاف، أو زي بيتقال “تنام على التفاصيل”، وفيه طريقة تانية حديثة، إنك تقول القصة اللي عايز الناس تصدقها، الصمت طريقة لكتم السر، والكلام برضه طريقة تانية، ولا يجتمع الضدان.
“حلوة أوي حكاية إن الحكومة مش مليانة أسرار، إنت بتستعبط؟ دي أسرارهم أكبر من أكبر كم تقدر تتخيله، فيه دلوقتي حوارات بتحصل، حوارات عِنَب، هكتب عنها لما أقدر، بس فيه حوارات دلوقت عِنب في الشرق الأوسط، إنت بتستعبط؟ أيوة طبعا فيه، أيوة طبعا فيه.” ~ سيمور هيرش.