(1)
فبراير 2012- الإسكندرية
يومها، دخلتُ إلى مكتب شئون الطلبة في كليتنا، ذي الجو الحكومي المقبض إياه؛ ارغب في الاستفسار عن شيء ما.. جلستْ شلة من الموظفين، أغلبهم من النساء، يتبادلون جميعا أطراف الحديث بصوت عال، وهم يلوكون بقايا شطائر الفول والفلافل، حيث كُنّا في بداية اليوم، وعندئذ يعلو شأن تناول الإفطار فوق كل شأن آخر بالنسبة للسادة الموظفين، حتى لو كان هذا الشأن هو أداء مهام وظائفهم.
وقفتُ بجوار أحد المكاتب، صامتا، أتابع النقاش الدائر أمامي.. كان النقاش يدور حول المرشح الأفضل لمنصب رئيس الجمهورية، في تلك الإنتخابات التي ستُجرى بعد شهور، في حينها.. كانت إحدى الموظفات، في أواخر الأربعينيات من عمرها ذات نظارات سميكة صوتها عال دائما دون داع لذلك، تقول إن مصر لا يصلح لرئاستها سوى “توفيق عكاشة”.. قالتها، وكررتها بحماسة ثلاث مرات، كأنها تهتف.
في تلك اللحظة، بدأتُ أشعر بخطورة الأمر فعلا؛ لأنني اصطدمتُ بتلك الحقيقة القاسية حينها، وجها لوجه، ولأول مرة: هناك مصريون، يُفترَض أنهم على درجة مناسبة من التعليم والإدراك، يرون في عكاشة قائدا ملهما وزعيما محنكا!
(2)
كان لمعان نجمه بعد الثورة دراميا بحق؛ حيث جاء صعوده في ضربات متوالية، متتابعة، مُربكة، كأنها القدر: عدة حلقات مع الفتى “سبايدر” محورها أن ثورة يناير مؤامرة ماسونية من أجل هدم مصر- إعلانه عزمه ترشحه للرئاسة؛ لإنقاذ مصر، ومشاركته في تأسيس حزب “مصر القومي” – سخريته اللاذعة من د. محمد البرادعي- مساندة منقطعة من عكاشة لأجهزة الأمن في مواجهاتها مع المتظاهرين طيلة فترة حكم المجلس العسكري- معركته الشهيرة ضد باسم يوسف- مساندته اللامتناهية لأحمد شفيق، أحد أعمدة نظام مبارك، أثناء انتخابات الرئاسة في 2012، بعد أن أعلن عكاشة أنه لن يترشح؛ حتى لا تتفتت أصوات الوطنيين المخلصين بينه وبين الفريق شفيق.
ومع صعود محمد مرسي لكرسي الرئاسة، كان توفيق عكاشة قد نصَّب نفسه زعيما للأمة في مواجهة خطر الإخوان، وبدأ في تشبيه نفسه بالزعيم الراحل “سعد زغلول”.
والمضحك حقا ليس هذا، بل المضحك المبكي، في آن واحد، أنه كان يملك جمهورا عريضا يرى فيه ذلك فعلا!
(3)
فبراير 2013 – الإسكندرية
وأنا في طريقي للبيت، قرب العاشرة مساء ذلك اليوم، توقفتُ عند دكان “عم فرج”، هذا العجوز المتهالك الذي يجلس في دكانه الصغير، على بُعد شارعين من منزلي؛ ليبيع السجائر والبسكويت والمياه الغازية.. على شاشة التليفزيون الصغير، كان عكاشة يصيح غاضبا، يسب الشباب العميل الذي يهاجم الداخلية ويطالب بتطهيرها، ولا يلتفتون لخطر الإخوان.
حاولتُ أن أحادث “عم فرج” وأمازحه كعادتنا، لكنه لم يلتفت لي حتى.. كان مأخوذًا تماما بمتابعة عكاشة، يرتشف كلامه كرضيع تسقيه أمه الحليب من ثديها.
قلت بشكل خاطف، وأنا أحمل ما اشتريته: إيه اللي أنت بتتفرج عليه ده يا عم فرج؟!
صوَّب العجوز نحوي نظرة نارية، جمَّدتني من المفاجأة في مكاني؛ لأستفيق على زعقة خاطفة منه: إوعى تقول على الأستاذ توفيق كده قدامي تاني!
صعدتُ إلى منزلي يومها وأنا أدرك جيدا خطر النبي الجديد.. لقد صار للولي المُزيَّف مريدين وأتباع صادقين في محبتهم، لا يقبلون أن تُمَس سيرة سيدهم العكاشة أمامهم.
(4)
حكايته، في بدايتها، تبدو مكررة واعتيادية للغاية.
الشاب الريفي، محدود المهارات الشخصية، عظيم الطموح، الذي نزل إلى القاهرة طمعا في أضوائها، متسلحا بما يملكه من بعض المال، وما ورثه عن بيئته وتربيته من دهاء وقدرة على المواربة والمناورة والتماهي مع كل شيء وضده، لكن، هل كان يتخيل الشاب “توفيق عكاشة”، الشاب الذي كان مايزال يلاحظ سخرية “الأفندية” زملائه في مبنى التليفزيون منه ومن لكنته الريفية، أنه سيكون الإعلامي الأكثر إثارة للجدل، بعد مضي سنوات؟
(5)
فبراير 2014- دمياط
في ليل القرية البارد، رأيتُ جمعا لا يقل عن ثلاثمائة رجل، جلسوا في ما يشبه صفوف مشاهدة مباراة “الأهلي والزمالك”، في ساحة القرية الكبرى، أمام إحدى المقاهي؛ ليشاهدوا حلقة “الأستاذ توفيق عكاشة”، كما ينطقون اسمه في مهابة وتعظيم.
لا يمكنك إدراك مدى خطورة وتأثير توفيق عكاشة إلا إذا كنت من سكان الريف، أو من زواره الدائمين، والعارفين بأجوائه الاجتماعية.
في قريتنا في دمياط، حيث منبت أصل أبي وأمي، لمستُ شعبية عكاشة جلية حارقة كلسعة شمس أغسطس.
هو في نظر القرويين هناك الزعيم الوطني، الإعلامي الحُر الشجاع، المثقف المدرك لأبعاد الهول الذي نحياه، والأهوال التي تنتظرنا، وهي كثيرة.. هو ابن القرية، الذي لا يتعالى عليهم كأبناء المدينة/ غيره ممن يظهرون على التلفاز.. يتحدث بلغة يفهمونها، وبألفاظ لا تتعب أذانهم. تبدو حلقات برنامجه مريحة، مسلية، كجلساتهم على المقاهي في الليل، ومصاطب الحقول والدور وقت العصاري.
غادرتُ القرية وفي نفسي حزن، بعدما أدركتُ أن عكاشة يفعل ما لا نملك نحن، دعاة الحرية والمنادين بسيادة العدالة والمساواة، أن نفعله. لقد استطاع “مخاطبة البسطاء”، بكل ما تحمله الكلمة من ثقل.
(6)
توفيق عكاشة يدرك جيدا ما يفعله.. هذا الرجل ليس ساذجا، كما يحب أن يصدر هذه الصورة الكاريكاتورية الهزلية عن نفسه.. لقد عرف كيف يكون الإعلامي الأكثر جذبا للأنظار في مصر، بعد أن لعب على أكثر الأشياء حساسية في النفس المصرية، ووصل لخلطة سحرية لا تخيب:
الأبوية:
يجلس عكاشة لمخاطبة مشاهديه، وكأنه أب غاضب جلس لنصح أبنائه الأشقياء.. للصوت العالي هنا أهمية لا مجال للتنازل عنها، وللغضب كذلك.. لابد أن يكون عكاشة غاضبا لسبب ما، يختلف في كل مرة.. هو غالبا يشعر بخذلان المشاهدين له، أو بالظلم، أو بالسأم من كل ما يجري حوله من غباء. عكاشة هو الأب الفاهم، والكل أغبياء: السياسيون والأحزاب وأجهزة الدولة.. الكل بلا استثناء.. هناك أبٌ واحد يفهم ما يجري اسمه “توفيق عكاشة”، ولا بأس من أن يحتد الأب، ويسب أبنائه/ مشاهديه، عند ذروة الغضب.. الحقيقة أن ذلك كثيرا ما يتردد، وهذا ضروري جدا لو أردتْ رأيي.. الأب لابد أن يزعق، يسب، يحمر وجهه وهو يحرك يديه بعصبية.. الأب لابد أن يكون مخيفا، غير قابل للنقاش، مهما كان ما يقوله سخيفا أو مجوفا عند تأمله بجدية.
المصريون ما زالوا في حاجة لذاك الأب الذي يعرف كل شيء، ويريحهم من مشقة التفكير والنقد والتحليل.
ادعاء العلم بكل شيء:
المصريون معروفون بأن معظمهم يحب أن يدّعي العلم بكل شيء.. يُفتون في الطب والدين والسياسة والقانون بضمائر مستريحة وألسنة منطلقة.
يجلس عكاشة على الشاشة؛ ليشبع تلك النزعة المصرية المخيفة لدى متابعيه؛ فهو يفتي في كل شيء.. يتحدث على أساس أنه خبير سياسي، واستراتيجي محنك في وقت الحروب، وعالم جغرافيا إذا لزم ذلك، وأستاذ في التاريخ بكافة فروعه، ولن يتوانى أن يؤدي دور أستاذ مقارنة الأديان واسع الإطلاع، وهو بالطبع عالم اجتماع فذ دوما.
الجنس:
المصريون من أكثر الشعوب بحثًا عن كلمة “جنس” عبر الإنترنت.. وتوفيق عكاشة يدرك ذلك جيدا، وهو لا ينسى أن تلك المزحة الجنسية التي قالها على الهواء عن “أهمية الجرجير للأزواج” كانت من أكثر الأشياء التي ساعدت شهرته على التدفق والانتشار، في بداياته.
عكاشة يتهم معارضيه من الرجال في رجولتهم، ومن النساء في شرفهن أو تأخرهن في الزواج أو قبح الشكل.. يغمز ويلمذ، ويخاطب الزوجات في البيوت بأن “يركزوا معاه ويسيبوا اللي بيعملوه ده”، ويضحك ضحكته ذات الطابع الريفي الموحي إياه.
عكاشة يعلم أن المصريين مهووسون بالجنس، ولا ينسى ذلك أبدا في طبخته، ولو على سبيل البهارات.
الضحك:
المصريون محبون للنكتة، يتبادلونها بينهم ويؤلفونها وينشرونها، مدمنون للإفيه، للكوميديا في كل أشكالها.. هذا الشعب الضاحك، في كل الأحوال، حتى في أشد حالات الحزن الحالك، يستخرج الضحكة من قلب السواد.
أدرك عكاشة هذا جيدا.. الكوميديا جزء لا يتجزأ من أدائه؛ مستغلا موهبته الفطرية وقدرته على الإضحاك.
إذا لم تكن من متابعيه؛ تصديقا واتباعا له؛ ستتابعه لأنه قادر على إضحاكك.. حتى لو كنت تسبه وأنت تضحك؛ فما يهم عكاشة حقا أن تتابعه، لا أن تصدقه.
(7)
دائما ما أتخيل ذلك الضابط، الذي كلفه رئيس الجهاز الأمني الحساس الذي ينتمي له بأن يستغل عكاشة ليكون ذراعا طويلة للدولة، يجلس الآن في مكتبه ليتابع عكاشة، وهو مندهش من نجاحه المدوي هذا! لقد تفوَّق الرجل على أساتذته جميعا.. كان نابغا بشكل صاعق للجميع، حتى لمن يحركونه؛ لدرجة أنه يبدو الآن وكأنه خارج السيطرة أحيانا، وعلى استعداد للدخول في معارك شخصية، تخصه وحده، دون الرجوع لرؤسائه.
أطلق السادة المهرج الريفي، ولم يتوقعوا أن يكون هو الحصان الرابح، القادر على سحق كل المخبرين الإعلاميين الآخرين، من أبناء المدينة.
والآن، الأمر الواقع يقول إن عكاشة رجل خطير، بكل ما تحمله الكلمة.. هو الإعلامي الأكثر انتشارا وإثارة للجدل في مصر.. رجل له آلاف المتابعين المخلصين، قادر على إثارة الرأي العام تجاه قضية بعينها من خلال برنامجه.. مقاطعه الساخرة هي صاحبة نسب المشاهدة الأعلى على “يوتيوب” دوما.
هناك مشهد كلاسيكي في تراث الرعب الغربي: المهرج الذي يقف في ضوء القمر، وهو ينظر إلى أعلى ضاحكا، وعلى شفتيه ضحكة شريرة، وكأنه أتى ليظفر بك، بينما أنت لا تستطيع أن تحسم أمرك بالحذر منه؛ بسبب ملابسه المزركشة المبهجة، ووجهه متعدد الألوان، وهيئته الباعثة على الضحك.
والآن، في مصر، يأتي توفيق عكاشة؛ ليثبت أن هذا المشهد الكلاسيكي مازال قابلا للتكرار، حيث يمكنك أن تفتح التلفاز؛ لتطالع المهرج الشرس، وقد جلس لإضحاكك، بينما يده المختفية أسفل الطاولة تحمل المنجل الحاد، الذي تقطر منه دماء ضحاياه، أولئك الذين يؤيد الدولة في ذبحها إياهم كل يوم، ويستحثها على سحقهم بشكل أكثر شراسة مما يجري؛ لأنه غير كاف.. كل تلك الدماء غير كافية بالنسبة لعكاشة.. بينما أنت، ومعظم من يشاهده، غارق في الضحك الساخر من المهرج، الذي قد تكون أنت نفسك ضحيته في الغد.