اليوم : الثلاثاء 07 يوليو 2015

من منا سمع عن مدينة بهذا الاسم الغريب “واخاكا”؟ من منا يستطيع أن يخمن أين يمكن أن تقع مثل هذه المدينة؟ بالنسبة لي فقد اكتشفت وجودها على الخريطة فقط في العام الماضي، عندما تلقيت أول دعوة لعروض بعض أفلام مهرجان القاهرة الدولي لسينما المرأة ولإقامة ورشة الدقيقة الواحدة “رسائل بين نساء” هناك.

فور أن تلقيت الدعوة، بدأت في البحث عن معلومات تخص هذه المدينة دون أن أعرف حتى طريقة النطق الصحيحة للاسم المكتوب بالحروف اللاتينية، وجدت أنها تقع في جنوب المكسيك وهي عاصمة لمحافظة كبيرة الحجم تحتل الحنوب الغربي لدولة المكسيك وتصل حدودها حتى شاطيء المحيط الهاديء.

أما غالبية المواطنين فيها، فمن السكان الأصليين (من كانوا يقطنون هذه الأرض قبل دخول الإسبان بآلاف السنين). حتى هذه النقطة فلا يوجد شيء خاص.. إنها بعض المعلومات الجغرافية التي اعتدنا قراءتها، وكأنها كافية للتعرف على مدينة ما.

شيئاً فشيء بدأت أتذكر أنني قرأت قليلاً عن هذه المدينة منذ بضع سنوات، فقررت اللجوء إلى صديقنا جوجل لإنعاش الذاكرة التي بدأت تتهاوى.

وأخيراً.. تذكرت: لقد تكرر كثيراً اسم هذه المدينة في الإعلام الناطق باللغة الإسبانية عام ٢٠٠٦ بمناسبة احتلالها من قبل الأهالي والنقابات العمالية واللجان الشعبية لمدة سبع شهور، بعد أن تمكنوا من طرد كل عناصر الشرطة وممثلي الحكومة المحلية، وبعد أن فرضوا سيطرتهم الكاملة على كل وسائل الإعلام الحكومية على مدار هذه الفترة الطويلة.

بدأ هذا الاحتجاج الاستثنائي بإضراب نقابة المعلمين عن العمل من أجل تحسين الأجور وبعض شروط التعليم. ولأن نقابة المعلمين معروفة بقوتها في كل المكسيك وكذلك في واخاكا، فقد رفض الحاكم الجديد في هذا الوقت “أوليسيس رويس”، والمعروف بأفكاره اليمينية، هذه المطالب رفضاً تاماً بهدف وضع حد للقوة المتنامية للنقابات وبالذات نقابة المعلمين. كان رد النقابة هو إعلان الإضراب الكامل عن العمل والاعتصام في ميدان واخاكا الرئيسي، حيث انضمت إليهم في اعتصامهم نقابات أخرى كثيرة وجمعيات أهلية وحركات سياسية وطلابية ونسوية والآلاف من أهالي واخاكا ومن الفلاحين من القرى المحيطة.

كان نتيجة هذا التضامن هو ظهور “اللجان الشعبية لأهالي واخاكا” وهي القوة الجديدة التي أسفر عنها الاحتجاج والتي تشكلت بالانتخاب من المنظمات الأهلية والفلاحين والنقابات والحركات النسائية والطلابية والسياسية ومنظمات حقوق الإنسان، وذلك بعد أن قامت بطرد المحافظ والمحليات والشرطة من كل أنحاء المدينة. هذه اللجان الشعبية هي التي قامت بتنظيم الحياة اليومية في واخاكا على مدار السبعة شهور، وكذلك تولت عملية التفاوض السياسي والتحدث الرسمي باسم الحركة مع الحكومة المركزية وتنظيم المظاهرات اليومية والاحتجاجات التي امتدت لتشمل كل أنحاء المكسيك للتضامن مع واخاكا.

لم يقف عمل اللجان الشعبية المنتخبة عند هذا الحد وإنما وصلوا إلى حد المناقشة لإصدار دستور جديد يضمن كافة الحقوق السياسية ويضع أسس تحقيق العدالة الاجتماعية للطبقات المقهورة.

على مدار سبعة شهور، حاولت الدولة كسر إضراب واحتلال المدينة وذلك بالهجوم على نقاط التفتيش والحواجز التي أقامتها اللجان الشعبية.

أما الاغتيالات لقيادات هذه الحركة وإطلاق الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع فقد كانت جرائم يومية ترتكبها الدولة لكسر إضراب السكان، رغم ذلك فقد قاومت اللجان الشعبية ودافعت عن مواقعها باستماتة شديدة على مدار سبعة شهور.

كان من أهم ما قامت به اللجان الشعبية أيضاً هو احتلالها لكل وسائل الإعلام الحكومية من تليفزيونات وراديوهات وصحافة، بحيث سيطرت عليها للتتحول إلى منابر إعلامية للحركة الاحتجاجية وصوت للجان الشعبية التي كانت ترسل بأخبارها إلى العالم بشكل يومي حتى يعرف حقيقة ما يحدث في واخاكا في مواجهة أكاذيب الحكومة.

تمثلت مطالب اللجان الشعبية في فرض شروط عادلة للعمل والحق الكامل في ممارسة الحياة السياسية بدون قيود، والإفراج عن كل المعتقلين السياسيين وأخيراً استقالة حكومة “أوليسيس رويس” المعادية للعمال.

استمر أثناء ذلك إطلاق النار بشراسة على كل المظاهرات الاحتجاجية. وفي واحدة من هذه المظاهرات، قامت الشرطة بإطلاق النار على الصحفي الأمريكي “براد ويل” عندما كان يصور بكاميرته بعض الشباب الذين يواجهون بحجارتهم عدداً من القناصة المتحصنين داخل بعض البيوت وفوق أسطح بعض العمارات. بينما كان الصحفي الأمريكي يصور بالفيديو ما يحدث، فجأة أصيب برصاصة في المعدة توفى على أثرها، إلا أن كاميرته استمرت في التصوير بشكل أوتوماتيكي لعدة دقائق بعد وفاته، بحيث سجلت وجوه القناصة الذين كانوا يطلقون النيران ولحظة إطلاق الرصاص عليه ولحظة موته. هذه اللقطات من كاميرا المصور الأمريكي والتي أذيعت فور مقتله، كانت سبباً في أن تبدأ كل وسائل الإعلام العالمية تناول ما يحدث في واخاكا من وجهة نظر المضربين.

بعد سبعة شهور من فشل الدولة في فض احتلال المدينة ومن فض إضراب المدارس الذي استمر طوال تلك الفترة، قررت التدخل بالدبابات وبعنف لم يسبق له مثيل، أدى إلى القبض على العشرات ومقتل الكثير من المتظاهرين.

رغم أن اللجان الشعبية والأهالي والفلاحين لم يكن باستطاعتهم الصمود أمام عنف الدبابات والأسلحة الثقيلة، ورغم أنه تم إخلاء الميدان وكل المؤسسات الحكومية من ممثلي اللجان الشعبية الذين كانوا يقومون بإدارتها، إلا أن هذه “اللجان الشعبية لأهالي واخاكا”، والتي انبثقت عن هذا الاحتجاج الضخم، تحولت منذ عام ٢٠٠٦ إلى قوة سياسية مؤثرة في الواقع السياسي باعتبارها التحالف الأكبر الموحد والمنتخب للنقابات والفلاحين والحركات الطلابية والنسائية والسياسية وذلك على مدار السنوات التالية لهذا الاحتجاج.

وأخيراً لا تظن عزيزي القارى أن صديقنا “جوجل” هو من قدم لي كل هذه المعلومات، فجوجل ليس معروفاً عنه دعمه للحركات الثورية!

لقد كان من حسن حظي أن من قاموا بدعوتنا إلى واخاكا في العام الماضي لعرض أفلام مهرجان القاهرة لسينما المرأة، هم من الشباب الذين كانوا في قيادة إضراب ٢٠٠٦، وهم المؤسسون لمنظمة تسمى “أوخو دي أجوا” وترجمتها “عين الماء” التي تتشكل من مجموعة من السكان الأصليين لمحافظة واخاكا الذين أخذوا على عاتقهم التوثيق بالصوت والصورة لكل ما حدث في هذا الإضراب.

بسبب العمل المنظم والدؤب لشباب “أوخو دي أجوا” وزملائهم، استطاع العالم أن يتعرف على حقيقة ما يحدث هناك أثناء احتلال المدينة.

تقوم هذه المجموعة حتى اليوم بتنسيق عمل كل وسائل الإعلام غير الحكومية وغير المسجلة من راديوهات وتليفزيونات مجتمعية انبثقت عن إضراب ٢٠٠٦ وتظل تعمل وتبث برامجها حتى وقتنا هذا.

في العام الماضي وبعد أن حكى لي هؤلاء الشباب كل تفاصيل ما حدث في ٢٠٠٦، كنت أتخيل أنني تعرفت على أهم شيء حدث في تاريخ “واخاكا”، إلا أنني اكتشفت أثناء زيارتي الثانية لها منذ أسبوعين تقريباً وبمناسبة أيضاً دعوتهم لنا لتقديم أفلام مهرجان المرأة للعام الثاني على التوالي، اكتشفت أنني لم أتعرف على أهم شيء في هذه المحافظة العجيبة والتي تحمل إسماً عجيباً مثلها! في زيارتي الأولى لها لم أكتشف سر هذه القوة وهذا التنظيم الذي استمر على مدار شهور دون أن تستطيع الدولة كسره. أما في زيارتي الثانية هذا العام ومنذ أسبوعين فقط، اكتشفت هذا السر الرائع والمدهش في آن! اكتشفت نوع من اليوتوبيا التي تحققت ومازالت تتحقق على أرض الواقع في واخاكا!! إنه موضوع المقال القادم في “زائد 18″.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان