اليوم : الجمعة 03 يوليو 2015

في استجابة سريعة من السلطة القضائية ممثلة في النيابة العامة، أدت إلى تحرك سريع للسلطة التنفيذية ممثلة في الأجهزة الأمنية، ألقت هذه الأجهزة القبض على من باتت تعرف بفتاة “سيب إيدي”، وذلك بناء على أمر ضبط وإحضار أصدرته النيابة العامة.

الاتهامات الموجهة للفتاة والتي وصفتها بعض المواقع الإخبارية بالموديل الإعلاني ووصفتها أخرى بالفنانة الاستعراضية أو الراقصة، تتعلق بظهورها في مقطع فيديو مصور لأغنية بعنوان “سيب إيدي”. المقطع الذي نشره منتج الأغنية وبطل الكليب المصور لها على موقع يوتيوب، كان قد انتشر بسرعة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت وأثار ضجة كبيرة نتيجة لما احتواه من عري وإيحاءات جنسية.

أول ما يطرح نفسه من أسئلة بخصوص هذه الواقعة هو “لماذا من بين العدد الذي لا يمكن احصاؤه من المواد المصورة التي تحتوي عريا وايحاءات جنسية أو في أحيان كثيرة ممارسات جنسية مباشرة، كان هذا المقطع هو وحده ما أدى للتعقب القانوني للمشاركين في إنتاجه؟”

لا يوجد في الواقع ما يميز هذا المقطع عن كثير غيره من الأعمال التي تنشر على الإنترنت أو حتى من خلال شاشات قنوات فضائية عدة دون آثار قانونية من أي نوع. الإجابة لا يمكن أن تكمن إذن في محتوى مقطع الفيديو نفسه وإنما في الظروف المحيطة بنشره، وللوهلة الأولى ستبدو الضجة المثارة حوله والتي شملت تعليق آلاف من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي عليه ثم تعرض عدد من مذيعي التوك شو له، هي المرشح الطبيعي كإجابة.

صحيح بالطبع أن الضجة المثارة حول هذا العمل أو ذاك تظل القاسم المشترك بين كل الأعمال التي ووجهت بملاحقة قانونية لأصحابها أو بتدخل إداري بمنع العرض أو غير ذلك. لكن الضجة التي تثار حول عمل ما ليست الشرط الوحيد لأن تلتفت إليه عناية مؤسسات الدولة، فيمكن بإحصاء بسيط أن نثبت أن نسبة ضئيلة فقط مما أثيرت حوله ضجة إعلامية كبيرة من الأعمال قد لقي اهتماما من مؤسسات الدولة. لابد إذن من وجود عامل أو عوامل أخرى.

لا أعتقد أنه سيكون من المبالغة أن أضع واقعة تبدو بلا قيمة كبيرة في إطار الصراع السياسي الحاكم لواقعنا اليومي حاليا.. في الحقيقة كونه صراعا (حاكما) يعني بالتعريف أنه يشمل ويمتد إلى معظم وقائع حياتنا اليومية وبصفة خاصة يحكم سلوك أطرافه سواء تناول هذا السلوك أمورا تبدو مصيرية أو أخرى تبدو على العكس من ذلك. الصراع الذي أعنيه بالطبع هو ذلك الذي تخوضه مؤسسات الدولة بقيادة المؤسسة العسكرية في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين. وفي حين تحب مؤسسات الدولة في خطابها الإعلامي أن تسمي هذا الصراع بالحرب على الإرهاب فإن هذه الحرب بالتعريف الدقيق تمثل فقط جزء من الصراع الذي يتسع ليجعل من المجتمع ككل ساحة له. بهذا المعنى فإن هذا الصراع هو صراع هيمنة في الأساس. والمقصود بالهيمنة هنا هو سعي كل طرف في الصراع إلى اجتذاب تأييد الفئات الأخرى في المجتمع إلى جانبه بالاعتماد على الأرضية المشتركة التي توفرها رؤية أخلاقية سائدة وذلك بزعم أنه المؤهل بعكس الطرف الآخر لتحقيق وحماية هذه الرؤية الأخلاقية التي يفترض دائما أنها في حالة تداع مقلق وأنها تحت التهديد بانهيار وشيك.

وفي حين حققت مؤسسات الدولة نجاحا كبيرا حتى الآن في إلحاق الهزيمة بخصمها في الجانب الذي يمثله الخطاب القومي من الرؤية الأخلاقية للمجتمع وذلك من خلال استخدام وضع جماعة الإخوان في دائرة الخيانة للوطن والعمالة لصالح أعدائه الخارجيين، فإن الجانب الذي يمثله ما يمكن أن نسميه خطاب الفضيلة لا يزال ساحة صراع محتدم لم يتم تحقيق نصر حاسم لأي من الطرفين فيه. ويشهد تزايد معدل تدخل مؤسسات الدولة في قضايا تتعلق بحماية أخلاق المجتمع خلال العامين الأخيرين اهتمام هذه المؤسسات بإثبات أنها حريصة على تحقيق الرؤية الأخلاقية للمجتمع الفاضل. وفي المقابل يوضح استغلال الإخوان لكل واقعة يمكن تصويرها على أنها تمثل انحرافا أخلاقيا عن المعايير المجتمعية السائدة في إعادة اتهام مؤسسات الدولة بأنها كونها علمانية (صفة وحدهم الإخوان يصفون بها مؤسسات الدولة المصرية) فهي بالضرورة غير أمينة على أخلاقيات المجتمع النابعة كما يصر الإخوان (وتتفق معهم مؤسسات الدولة) من خلفيته الدينية الإسلامية.

في إطار الصراع على أرضية خطاب الفضيلة إذن يمكننا أن نرى تزايد الملاحقة القانونية للمثليين وعابري الجنس أو النوع الاجتماعي من قبل مؤسسات الدولة على جانب كما يمكننا أن نرى تركيز الإخوان المسلمين الكبير على ظاهرة تعبير السيدات عن تأييدهن للنظام وقائده بالرقص أمام لجان الاقتراع على تمرير الدستور أولا ثم الانتخابات الرئاسية لاحقا. مركزية المرأة والجنس في خطاب الفضيلة هو أمر لا يحتاج إلى كثير من الجدل وهو ما يجعل جسد المرأة ساحة صراع في حد ذاته ولعل التقرير الأخير للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان والذي رصد تزايدا استثنائيا لمعدلات العنف الجنسي بصوره ضد المعتقلين في العام الأخير وبخاصة ضد المعتقلات المنتميات للإخوان، يوضح استخدام الأجهزة الأمنية لهذا العنف كسلاح أساسي على ساحة ينظر إليها على أنها مهمة في الصراع الحالي. ويعيد مرور ذكرى الأربعاء الأسود هذه الأيام إلى ذاكرتنا بدايات الاستخدام السياسي للعنف ضد المرأة بشكل جماعي كسلاح لمواجهة المعارضين للنظام، وهو سلاح تزايد معدل استخدامه خلال مواجهات وفعاليات الثورة منذ يناير 2011 وصولا إلى استخدامه في إطار مواجهة مؤسسات الدولة للإخوان من ناحية ولمعارضيها من غير الإخوان من ناحية أخرى.

تعيدنا مركزية جسد المرأة في الصراع على أرضية خطاب الفضيلة إلى واقعة “سيب إيدي” فمساحة ما كشف من هذا الجسد وقدر ما انخرط فيه هذا الجسد من ايحاءات جنسية كان الأساس في قدر الضجة التي أثارها مقطع الفيديو. وكان هذا الجسد بدوره هو موضع الاهتمام في التغطية الإعلامية للملاحقة القانونية لصناع الكليب. فأفردت مساحات كبيرة لصور فتاة الفيديو بعد القبض عليها فيما يشبه الاحتفال بالاستحواذ على “حتة اللحمة” المرغوبة، وظهر مزيد من الصور التقطت للفتاة مع عدد من المشاهير مع عناوين مثيرة عن تورطهم معها. في حين انزوى خبر إحالة منتج الفيديو بمعية الفتاة (البطلة الرئيسية للقصة برمتها) إلى محاكمة عاجلة، بوصفه لا يمثل أهمية كبيرة. مع العلم أنه وفق مواد القانون فإن منتج الفيديو الذي قام بنشره على شبكة الإنترنت يعتبر المتهم الأساسي في الواقعة، وربما المتهم الوحيد.

عندما نضع في الاعتبار استحالة تمتع أي إجراء قانوني يهدف إلى ضبط السلوك الأخلاقي للمجتمع بالشمول، بما في ذلك استحالة تعقب كل خارج عما يعتبر السلوك القويم قانونيا، فإن كل تطبيق للقانون في هذا الإطار هو انتقائي وبالتالي هو بالضرورة لا يهدف إلى فرض سيادة القانون (المستحيل تحقيقها أصلا في هذا المجال) وإنما تكون له دائما أهداف أخرى. ومن ثم فإن هؤلاء الذين يقعون بالصدفة تحت طائلة مواد قانونية لا يمكن تطبيقها على الجميع هم ضحايا لظروف لا علاقة لها بالجرائم المنسوبة إليهم، وهو ما يعتبر شكل من أشكال التمييز العشوائي ضدهم. لا يقل أهمية عن ذلك حقيقة أن المجتمع ككل هو ضحية تلاعب طرفي الصراع بمشاعره الأخلاقية التي لا يمكننا مع ذلك تبرئتها بأي شكل كونها بالتأكيد تنطوي على تناقض فادح بين ادعاء الفضيلة وبين الهوس بإشباع الرغبة في الاستحواذ على جسد المرأة سواء بالمشاهدة المحمومة لفيديو يحتل فيه هذا الجسد دور البطولة أو بالتشفي في التدمير الرمزي لهذا الجسد من خلال العنف القانوني الممارس ضده (الذي لا يختلف نوعيا عن أشكال العنف الأخرى كالتحرش أو الاغتصاب كونها جميعا أشكال من الاستحواذ بالتدمير). هذا اللعب المستمر بواحدة من أكثر نقاط ضعف مجتمع ذكوري محبط تفجرا يزيد من تفاقم المشكلة المزمنة للعنف ضد المرأة وهو ما يعني أنه ليست فقط فتاة “سيب إيدي” هي الضحية لانتقائية العدالة أو أن معتقلات الإخوان وحدهن هن ضحايا العنف ضد أجسادهن في إطار هذا الصراع ، وإنما نساء مصر كلهن كما هو المعتاد في أي صراع عليهن دفع الفاتورة الأكبر.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان