ذلك الشاب الإنجليزي المهذب, يمثل وصمة عار لكل من يجرؤ في بلادنا التعسة أن يطلق على نفسه محترفا لهذا الفن الرفيع ..
لدي اعتراف صغير لا أخجل منه البتة.. بالذات بالنسبة لمن أكلمهم بدون أن يروني, دعني أضعه في أكثر صيغة متحفظة ممكنة.. أنا لست أنحف شخص يمكنك أن تراه, ومش عايز كلمة زيادة عن كده.
وإذا كان من سبب رئيسي لهذا الوزن الزائد وأنواع المعاناة المختلفة المصاحبة والملازمة له إلي جانب الأسباب التقليدية من الكسل ونقص الحركة والعمل المكتبي إلخ.. فإنه عشق لا ينضب معينه للطعام وفنونه وألوانه.. نعم ثانية هذا اعتراف لا أخجل منه ولا أضعه في صيغة متحفظة.. بالنسبة لصاحب هذه السطور المتواضع، فإن الطعام يمثل واحدا من أكبر مجلبات السعادة والفرحة في الحياة بروتينها ورتابتها ويقاعها الممض.
وإذا كنت مثلي ممن لا يكتفون بالأكل فقط, لكن يعشقون التذوق والتجديد والتجريب، بل والمخاطرة أحيانا.. وفي نفس الوقت يحبون أن يختلسوا النظر إلى ما وراء الستار لمعرفة طرائق وكواليس تحضير تلك الأصناف الجميلة التي أسعدتهم يوما.. بالذات أن كثيرا من رجال هذا المجتمع الكالح الذي نحيا فيه لا يهتمون، بل وأحيانا يتفاخرون بعدم قدرتهم على سلق بيضة.. ربما كدلالة على نوع من أنواع التفوق الذكوري وعدم حاجة “المحروس” منهم لدخول المطبخ بسبب التوفر الدائم لأنثى جرها حظها العاثر كأم وأخت وزوجة لأن تكون في الخدمة المنزلية الدائمة لجنابه.. المهم, يجب أن تبحث عن , وتشاهد هذا الشاب.. الذي وإن بلغ حاليا أربعين عاما، فهو سيظل شابا إلى الأبد, بمرحه وخفة ظله وشغفه، وبالعبقرية منقطعة النظير التي يعمل بها ويظهرها على الشاشة ببساطة وبلا أدنى قدر من التكلف.
جيمس تريفور أوليفر, أو كما يعرفه العالم “جيمي أوليفر”، هو شيف إنجليزي من مواليد عام 1975.. يمكنك أن تعرف الكثير عنه من خلال هذا الرابط.
ما يبهرني في ذلك الرجل بهي الطلعة الذي امتلك على حد سواء عبر سنوات عمره القصيرة نسبيا ناصية إعداد وابتكار أبسط وأجمل الأكلات إلى جانب فن عرض وتقديم البرامج التي يمتلك رصيدا كبيرا منها (قدم حوالي ثلاثين برنامجا بداية من عام 1999), إنه لا يشعرنا إطلاقا أنه يبذل أدنى مجهود في تقديمه لأعماله الفنية المأكولة تلك.. وهو لا يكف أيضا عن التجريب, وإدخال مكونات جديدة لوصفات كلاسيكية تزيدها رونقا وجاذبية. لا يقوم على الإطلاق بمعايرة مكوناته ومقاديره, فهو يطلق يديه في التوابل والأعشاب والخضراوات بشكل يبدو عشوائيا تقريبا ويضع من هذا على ذاك وكأنه طفل يلهو وينتظر ماذا ستكون النتيجة، لكن تأتي النتيجة دائما بما يسر الناظرين, ويبدو في النهاية كل ما كان يفعله منطقيا جدا وبديهيا لدرجة أنك في كل مرة تكاد تضرب جبهتك بيدك قائلا: لماذا لم أفكر في هذا؟!
إلى جانب “أوليفر” وكثيرين من زملائه في برامج مماثلة, تضع المقارنة بينهم وما بين ما نطالعه على شاشات معظم فضائياتنا العربية من برامج للطعام.. تلك الأخيرة في مكان بالغ السوء.. ما بين ثقل الظل اللامتناهي والديكورات المبالغ فيها والأصناف الأقل من عادية التي يقومون بتقديمها والتي تفتقر لأي نوع أو درجة من درجات الإبداع أو البساطة، وبين المكالمات الهاتفية السخيفة لربات البيوت اللائي يتغزلن في براعة وحصافة أي من هؤلاء ويطلبن منه في تذلل أن يتعطف ويشرح لهن طريقة صنع الـ “سبونش” كيك مثلا، فيبدأ في الشرح بكل أريحية، بينما يقوم على الشاشة فعليا بالعمل على وصفة للمسقعة.. ليترك المشاهد العابر الذي فتح القناة فجأة في حالة من الحيرة والارتباك والتلبك المعوي في نفس الوقت.
لـ “أوليفر” كإعلامي أيضا جانب لا يقل أهمية , فهو بعد سنين من العمل في هذا المجال، فإنه يتبنيى بحماس القضايا المتعلقة بالأكل الصحي الذي لا يجب أن يكون فقيرا ومعدوم الطعم، وقد خصص جزء كبيرا من وقته لنشر وتحفيز ثقافة الاستمتاع بتناول الطعام الذي لا يضر أجسادنا، بالذات لدى الأطفال وفي المدارس.
حتى وإن لم تكن من متعصبي الطعام الرائع أمثالي، فإن مشاهدة هذا الرجل الفنان لن تزيدك إلا سرورا وبهجة، وستمثل فترة راحة قصيرة ومطلوبة من كتل الاكتئاب المتدحرجة في وجوهنا ليلا ونهارا.
شاهد: محاضرة “جيمي أوليفر” في مؤتمر TED عن ثقافة الطعام وأهمية الطعام الصحي.