تناولنا في المقال الأول العبارات التعريفية العامة والفضفاضة التي وردت بالقانون، ويمكن تأويلها على أكثر من وجه، وأوضحنا مدى مخالفتها للمعايير التي حددتها المحكمة الدستورية في شأن صياغة التشريعات الجنائية والتي حذرت من تحول مثل هذه النصوص إلى شباكاً أو شراكاً يلقيها المشرع ليتصيد باتساعها أو إخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها.
وفى هذا مقال نتناول أبرز ما أورده المشرع في فصل (الجرائم والعقوبات) حيث استمر على ذات النهج في استخدام العبارات والكلمات المطاطة، فضلا عن توسعه في إخضاع عدد كبير من الممارسات والسلوكيات الطبيعية لنطاق التجريم والعقاب وفقا لهذا القانون، ومن ذلك:
أولاً: عاقب بالسجن المشدد الذى لا تقل مدته عن عشر سنوات كل من (تلقى تدريبات تقنية) لدى جماعة إرهابية، وإذا كان من الطبيعي بل من اللازم تجريم التدريبات العسكرية والأمنية إلا أن إضافة كلمة (تقنيه) للمادة تسمح بتجريم طيف واسع من التدريبات، ليس هذا فحسب بل قرر صراحة عقوبة السجن المؤبد أو المشدد لكل من قام بتدريب أفراد على (وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية أو الالكترونية، أو أية وسيلة تقنية أخرى …أو مهارات أو حيل أو غيرها من الوسائل أيا كان شكلها) بزعم استخدامها في ارتكاب جريمة إرهابية أو في التحريض عليها. وكل ما ذكر من هذه التدريبات هي أفعال عادية ربطها بالجريمة الارهابية مترامية الأطراف خطر يحدق بالكافة، فلو قامت إحدى الأحزاب أو النقابات بتدريبات على مهارات التواصل والاتصال وتم وصفها بعد ذلك بأنها إرهابية أو تحرض على ارتكاب أعمال ارهابية -كما حدث مع حزب الحرية والعدالة- فهذا العقاب يطول كل من أعد أو تلقى تلك التدريبات حتى ولو لم يكن عضوا بتلك المنظمات.
ثانياً: القانون يفتح الباب لتسهيل اتهام الباحثين الاجتماعيين أو السياسيين وأعضاء الأحزاب والنقابات وكافة منظمات المجتمع المدني بتهمتي التخابر أو السعي للتخابر فالمادة لم تقصر التجريم على التخابر أو السعي له لدى (دولة أجنبية) بل فتحت الباب لتجعل أي علاقة مع أيه (جمعية) أو (منظمة) أو (جماعة) أو (غيرها) سواء كان مقرها (داخل مصر أو خارجها) تقع تحت طائلة هذا القانون حال الزعم بأنها (سترتكب أو تعد لارتكاب جريمة إرهابية)، وجعل العقوبة هي الاعدام سواء حال وقوع تلك الجريمة أو الشروع فيها.
ثالثاً: جرم القانون أفعال الدخول بالقوة أو بالعنف أو (التهديد) أو (الترويع) في أحد (المقار الرئاسية أو مقار المجالس المحلية أو مجلس الوزراء أو الوزارات أو المحافظات أو القوات المسلحة أو المحاكم أو النيابات أو مديريات الأمن أو أقسام ومراكز الشرطة أو السجون أو الهيئات أو الأجهزة الأمنية أو الرقابية أو الأماكن الأثرية أو المرافق العامة أو دور العبادة أو التعليم أو المستشفيات أو أي من المباني أو المنشآت العامة)، وجعل عقوبتها السجن المؤبد أو المشدد، مما يفتح الباب للنيل من أي تظاهرة أو تجمهر أو إضراب أو اعتصام أو أي تجمع سياسي أو اجتماعي-بزعم أن ذلك بقصد ارتكاب جريمة ارهابية- في ظل التعريفات المطاطة للجريمة الإرهابية والعمل الإرهابي.
رابعاً: قرر عقاب كل من حاول بالقوة أو العنف أو (التهديد) أو (الترويع) أو غير ذلك من وسائل العمل الإرهابي قلب نظام الحكم أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري أو شكل الحكومة بالسجن المؤبد أو المشدد الذى لا تقل مدته عن عشرين سنة، مما يسمح بإخضاع كافة أعمال المعارضة السياسية والديمقراطية تحت طائلة تلك المادة بزعم أنها انتهجت وسائل التهديد والترويع، بالرغم أن استخدام المعارضة السياسية أو الشعبية لوسائل الضغط لتغيير الدستور أو شكل الحكومة…الخ من الحقوق التي تتمتع بها الشعوب في الأنظمة الديمقراطية ولا يجب وضعها في إطار تشريعي يسمح بوصفها بأنها جريمة أو عمل إرهابي.
خامساً: القانون يصادر الحق في المعرفة، وحريات الرأي والتعبير وتداول المعلومات والصحافة، ويضع عقوبات على (كل من أنشأ أو استخدم موقعاً على شبكات الاتصالات أو شبكة المعلومات الدولية أو غيرها) بزعم الترويج للأفكار أو المعتقدات الداعية لارتكاب أعمال إرهابية أو بزعم (تضليل السلطات الأمنية) أو (التأثير على سير العدالة).
سادساً: القانون يهدد مستقبل كل صحفي ويسمح بحرمانه من مزاولة المهنة لمدة عام بزعم إخلاله بأصول مهنته، ويرهق الصحفيين ومؤسساتهم الصحفية بغرامات وتعويضات باهظة لقيامهم بمهامهم الصحفية، حيث تقضى المادة بالغرامة التي لا تقل عن مائتي ألف جنيه ولا تجاوز نصف مليون كل من (نشر أو أذاع أو عرض أو روج أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أعمال إرهابية وقعت داخل البلاد) أو (العمليات المرتبطة بمكافحتها) بما (يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع)، وهو ما يحرم الصحافة من تقصى الحقائق ويلزمها بمصدر وحيد لتلك الأخبار.
سابعاً: القانون لا يعاقب على الجرائم التي وقعت بالفعل فقط إنما يعاقب أيضا على كافة أفعال التحضير أو الاعداد لها مما يفتح الباب لإيقاع أي سلوك طبيعي من أي مواطن تحت طائلة هذه المادة، فليس هناك ما يمنع من وصف أي (لقاء) أو(اجتماع) أو(محادثة هاتفية) أو (رسائل الكترونية) تتعلق بشأن عام بأنها عمل من أعمال الاعداد أو التحضير.
ثامناً: القانون يعاقب كل من تتوافر لديه معلومات أو بيانات تتصل بأحد مرتكبيها، وكان بمكنته الابلاغ ولم يبلغ السلطات، وهو ما يفتح الباب للبلاغات الكيدية التي يقوم بها البعض للانتقام من خصومهم أو الكيد لهم، كما يفتح الباب للبلاغات الوهمية التي قد يحررها من يخافوا من الوقوع تحت طائلة هذه المادة إذا ساورهم شك –سواء عن جهل أو سوء فهم- في ممارسات بعض الجيران أو القريبين منهم مما سينتج عنه صراعات ومتشاجرات بين أطراف تلك البلاغات، فضلا عما يمثله ذلك من الطعن في الأشخاص وسمعتهم واعتبارهم من ناحية واقتحام حياتهم الخاصة من ناحية ثانية.
تاسعاً: الحكم في جريمة إرهابية تكون العقوبات أصلية كالإعدام أو السجن المؤبد أو المشدد ومعها عقوبات تبعية كمراقبة البوليس، ومصادرة الأموال وحل التنظيمات، ثم أتاح القانون للمحكمة الحكم بعقوبات أخرى تحت مسمى تدابير يلتزم بها المحكوم عليه بحد أقصى خمس سنوات فيما عدا التدبير الأول، وهى (إبعاد الأجنبي عن البلاد، حظر الاقامة في مكان معين أو في منطقة محددة، الالتزام بالإقامة في مكان معين، حظر الاقتراب أو التردد على أماكن أو محال معينة، الالتزام بالوجود في أماكن معينة وأوقات معينة، حظر العمل في أماكن معينة أو مجال أنشطة محددة، حظر استخدام وسائل اتصال معينة أو المنع من حيازتها أو احرازها، الالتزام بالاشتراك في دورات إعادة تأهيل) . كما يترتب على الحكم بالإدانة في أي جريمة إرهابية فقد شرط حسن السمعة والسيرة اللازمين لتولى الوظائف العامة أو الترشح للمجالس النيابية.
ومن خلال حالات التجريم والعقاب السالف بيانها أعتقد أن الفلسفة التشريعية التي تبنتها السلطة في تلك النصوص تتجاوز فكرة مواجهة الجرائم الارهابية إلى مصادرة المجال العام وتأميمه لما اشتملت عليه من إفراط في التأثيم، وغموض وتعميم في النصوص العقابية يجعلها محملة بدلالات شتى، فخلقت دائرة تجريم متسعه بل ويمكن وصفها بأنها أضحت منفلته، وهو ما سيدفع المواطنين حتماً للتوجس من العمل العام والبعد عنه توقيا للعقاب الذى قد ينالهم، فضلاً على أن التشريعات العقابية لا تتوخى مجرد تحقيق الردع فقط ولكن غايتها العليا هي تنظيم المجتمع وحفظ بنيانه وتماسك قيمه حتى لا ينفرط عقده[1]. وكل ذلك في إطار من احترام الدولة للحقوق والحريات الدستورية، والتزامها بسيادة القانون، فتضييق الخناق على المجتمع وتنظيماته بزعم مواجهة الارهاب أو الظواهر الاجرامية يفقد تلك المواجهات جوهرها بما ينفى عن التشريع توافر الضرورة الاجتماعية اللازمة لإصداره، ويجعلنا أمام حالة من حالات إصمات المجتمع بقوة القانون.
[1] راجع المستشار عوض المر- رئيس المحكمة الدستورية المصرية سابقا- الرقابة على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية- مركز رينيه-جان دبوى للقانون والتنمية. ص 1029