اليوم : الثلاثاء 17 نوفمبر 2015

أن تسمع غير أن ترى، وأن تسمع ثم ترى لهو تجربة جديرة بالمعايشة والحكي.. كبرت في بيت يحتفي بالخطابات والصور والتذكارات. كان أبي وأمي كثيرا الأسفار، وكانت الخطابات طريقة تواصلهم المفضلة. في بيتنا هناك خزانة كاملة من الخطابات المليئة بالحكايات عن كل بلد، حكايات عن الطعام والطقس والناس والعادات والتقاليد. كما  تحوي الخزانة تذكارا من كل بلد. فهذا الكارت من اليابان، وذلك التمثال من الصين. تلك الحقيبة من الدنمارك وهذه الصور كُتب في خلفها برلين 1966. كنت أحلم أن أسافر لكل تلك البلاد لأختبر صدق الحكايات. لكن بعد أن أصبح الزمن غير الزمن، خفت حلم السفر.

في مارس الماضي تسافر صديقتي إلى برلين لمدة أربعين يوماً. ونظرا لولعنا بالخطابات نقرر إنشاء مدونة تحت اسم (القاهرة – برلين) كل منا ترسل خطابا ينتظر ردا من الأخرى. كانت الخطابات التي تأتي من برلين طويلة مفصلة سعيدة. في حين كانت خطاباتي من القاهرة قصيرة مقتضبة لا تحكي شيئاً. ففي بعض الأحيان كنت أشعر أن ما يحدث لا يستحق أن يكتب. فعلى أرض الوطن لا يحدث إلا القتل والاعتقال.

كانت تجربة (القاهرة – برلين) تجربة شعورية، ولم أكن أتخيل يوما أن تكون نواة لحلمي الطفولي في اختبار الحكاية. لكن يبدو أن الحياة تحقق لنا أحلاما قد فقدنا الأمل فيها على سبيل جبر الخواطر.

في هذا العام تسافر إلى برلين وتقابلني صديقتي وشريكتي في التجربة، قادمة من إسبانيا. نقضي فترة لا بأس بها سويا في برلين. وتجعلني أرى ما حكته لي وكأنه اختبارا لقدرتها على السرد، وقدرتي على التخيل.

اختبر مع صديقتي كل أنواع الطعام التي أخبرتني عنها. بداية من عربة مصطفى للشاورما مرورا بمحل البيتزا وعربات الطعام الصيني، وعربات البطاطس المقلية، وصولا للمطاعم التركية الشهية. تأخذني إلى شوارع بعينها حكت لي عنها سابقا، وتخبرني في أي مكان ضلت طريقها لساعات وفقدت الأمل في العودة. تأخذني لمقهى يدعى “نيو يورك” كانت تزوره وتحكي لي عنه. وعن روعة مشروب الشوكلاتة به، وأنا أشهد أنه أفضل مشروب للشيكولاتة تذوقته في حياتي.

رغم ضعف حاسة الإتجاهات لدي، أشعر بالألفة تجاه المكان. وتذكرني الشوارع بشوارع القاهرة، ففي برلين كوبري يشبه كوبري التجنيد، وإشارة مزدحمة كإشارة روكسي. كنت أسمي محطات المترو بأسماء مصرية. فهذه محطة التحرير وتلك هي العتبة وهذه محطة هادئة كمحطة محمد نجيب. كان ذلك يثير ضحك صديقتي طوال الوقت، فالقاهرة لن تصبح برلين يوما ما.

أقابل الكثير من أصدقائها هناك, لأختبر صدق انطباعاتي عنهم من خلال خطاباتها السابقة. فتجربة أن تقرأ عن شخص ثم تقابله تجربة غريبة. بداية من تخيلك لتون صوته، لكنته، ورائحته, وطريقة ضحكه، واتساق ذلك مع الواقع. وتعجبت أن خيالاتي كانت صحيحة بدرجة كبيرة، أو ربما أقول أن سرد الصديقة رائع.

في طريقنا للمطار تسألني صديقتي إن كنت شعرت بمتلازمة برلين مثلها، وهو مصطلح يعني أنك لا ترغب في ترك برلين وكأنها بيتك. ورغم إنكاري لهذا الشعور إلا أني شعرت به بقوة. فبرلين ليست تلك المدينة المبهرة التي تأخذ أنفاسك، لكنها تشبه إلى حد كبير فكرة الوطن. برلين نظيفة، آمنة، منظمة، ومتطورة.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك