اليوم : الأربعاء 08 يوليو 2015

تعاطيناها لكي نعيش وعشنا لكي نتعاطاها.. هذه جملة من كتاب (المدمنون المجهولون)، تلخص الطبيعة الأبدية للعلاقة بين المدمن والمخدرات. يستمر المدمنون بتعاطي المخدرات، رغم ما تسببه لهم من إيذاءات صحية واجتماعية وخسارة للأسرة والأصدقاء، والأكثر.. الإهانات التي يتعرضون لها.. دعونا نستمع مباشرة لمجموعة من المدمنين أثناء رحلة علاجهم إلى حياة بدون مخدرات، وهم يحكون عن علاقتهم بالمخدرات، ربما يقربنا ذلك من فهم أبعاد تلك العلاقة.

“المخدرات بتخليني طبيعي.. بتردم على حاجات جوايا في الماضي”.. حوادث جنس، تفكك أسري، مشاكلي مع أمي وأذيّتها ليا، إحساس بالفشل، إحساسي إني أقل من أصحابي.. “مع الضرب باحس بنفسي.. باحس إني موجود وبعرف أنا عايز إيه”.

هنا المخدرات تساعد في تجاوز مؤقت لأزمة الهوية عند المدمن، والتي تعوق التعرف على أو الإحساس بنفسه كما أنها تساعده في تحمل المشاعر المؤلمة الخاصة ببعض الأحداث الحياتية.

“باحب المخدرات.. باحب كل حاجة تبعها، اللى بيتعمل قبلها، الإثارة اللي فيها، الخوف، والقلق اللي حواليها، وإنها حاجة متدارية بنعملها بينا وبين بعض.. كل واحد بيعمل أي حاجة عايز يعملها.. باحبها نفسها. باحب اكون مش في وعيي ومش طبيعي، بيبقى جوايا سكينة وثقة بالنفس.. أنا باتكسف جداً، والمخدرات بتخلينى بجحة، وتديني ثقة بنفسي إني كويسة وحلوة مش وحشه زي ما بحس وأنا فايقة”.

المخدرات تساعد هذه الفتاة على تجاوز مشاعر مؤلمة، وتدخلها في حالة من السكينة التي تسعى إليها، وترفع من إحساسها بذاتها، وهي طريقة أيضا للشعور بالإثارة والخصوصية والاستقلالية التي تسعى إليها.

 

“قبلها كانت الدينا فاضية، وهيّ اللي ملت الفضاء.. بتملالي كل حاجة.. باحس إن جوايا طاقة جامدة باطلعها في المخدرات، بابقى مشغولة بيها على طول، قبل ما اروح أضرب، بأبقى متنرفزة ومتضايقه”

تشعر هنا بالخواء الداخلي الناتج عن افتقاد المعنى في الحياة.. الخواء هو شعور يتكرر كثيرا في كلام المدمنين، وعادة ما يشيرون إلى اكتشاف معنى الحياة مع التعاطي وملأ هذا الشعور بالخواء المزمن.

“بتعوضني عن العلاقات الإنسانية.. المخدرات مش هاترفضنى.. أنا المتحكم في الموضوع، مش حمل بقى أروح لواحد مثلا يرفضني، الواحد مش مستحمل، هايروح يدور على ناس تَجرح فيه.. الواحد مجروح لوحده، المخدرات عمرها ما تقول لأ، على قد ما بأكره وحدتي، باحس إنها أحسن من قعدتي مع ناس تخنق فىَّ”.

العلاقة بالآخر عبء ثقيل، ويتم استبدال تلك العلاقة بالمخدرات ويتغزلون بها، إذ كثيرا ما يعبر المدمنون عن علاقة إنسانية بالمخدرات أنها الصديق، والحبيب والشلة، وأنها ليست غدارة، ولا تتركك أبدا وحيدا، وربما يكون هنا نوع من القلق الاجتماعي يعاني منه، والمخدرات تساعده عليه.

“ضرب البودرة كان بيعمل maximum satisfaction، كأنك عملت ألف واحد مع ألف مرة في نفس الوقت، وبت ejaculate من كل حتة في جسمك، الحاجة الوحيدة الواحد يضربها ما يقولش ها.. هاتعمل إيه؟ خلاص مفيش حاجة بعد كده.. أي حاجة الواحد يعملها تخلص ويدور على اللي بعدها، فالبودرة ماكانتش تخلي فيه ها.. كانت تريح أي مشاعر.. كنت باحس إنى مش محتاج بني آدمين في الدنيا.. مش عايز حاجة بعدها غير بودرة ثاني.. هي دخلت من هنا والدنيا سكتت من هنا، غيرت شخصيتي.. كلها اتغيرت، البودرة والإنبساط بتاعها مابقاش فيه قدرة على الإستمتاع براها، قتلت الطموح والأحلام والرغبات.. كلها ماتت.. كنت بأفكر واتخيل ولو أوهام.. دلوقتي اللي أقدر أتخيله الـ over dose.. نفسى أضرب وارتاح”.

البحث عن النشوة المطلقة في الـ هنا والآن.. لحظة التعاطي، ينحني عندها الزمن وتبتلع معها كل اهتمام أو شعور أو فكر آخر، وعندما تختفي تلك اللحظة بسبب الإفاقة، يظل يدور حولها ويسعى إليها حتى يصل مرة أخرى ومرة أخرى بلا توقف.

“هى بتدينى جرأه فظيعه، تخليني أعمل حوارات.. بتحسسني إني موجود، وأخيرا لقيت نفسي وبقيت عارف أنا عايز إيه، واحس إن الناس شيفاني حاجة كبيرة.. حاسس إني أعلى من الناس كلها، فبقيت زي الملك.. أعمل أي حاجة، وما بقاش فيه حاجة فارقة معايا”

أزمة هوية مرة أخرى، بدونها المدمن لا يتعرف على نفسه.. إنه في عذاب اللاوجود والغموض النفسي المؤلم.

“أحلى أيام، كنت سعيد من جوايا بجد.. بقيت اعرف اثبت الناس، واتعرف على ناس كتير بسرعة، واتعرف على بنات كثير، والأهم إنى مابقاش عندي مشكلة، خصوصا لما ارجع البيت؛ كنت اعرف ادخل عليهم وافتح معاهم مواضيع جديدة وحكايات كثير، وكنت حاسس إنى أهم واحد وسطهم، قبل كده كنت اقعد ساكت، لو فيه كلمة اقولها، وكنت ببقى مخنوق وحاسس إنى أقل منهم”

التعاطي يعالج أعراض نفسية واضحة كالشعور بالدونية والوعي المفرط بالنفس التي تلازم كثيرا من المدمنين وبالتالي تسمح بالتلقائية.

“المخدرات في حياتي كل حاجة، هي لا سعادة ولا اكتئاب، إنسان طبيعى، من غير مخدرات بيبقى فيه اكتئاب، مخنوق مش عارف أعمل حاجة من غيرها، مفيش تركيز، مابعرفش اتكلم، مجرد خرقة، مابعرفش اتعامل مع الناس أو اعمل أي حاجة من غيرها، مابعرفش أفكر”

مرة أخرى بدون مخدرات يوجد خواء داخلي وخارجي.. لا معنى ولا منطق لأي شيء

“لما أتعرفت على الكودافين – دواء كحة يحتوي على كودايين كان موجود في التسعينيات وتم منعه – حسيت إن كل مشاكلي اتحلت، كنت باحس إني مبسوط، وإن الناس جميلة وودودة ومفيش حد بيحاول ينتقدني، وده حسسني بالأمان، كمان لما كنت اروح البيت، واتكلم معاهم ماكانتش عيني تبقى مكسورة أو زايغة زي زمان.. الكودافين ساعدني كمان في إني أتعرف على البنات واعرف اتكلم معاهم كويس، ولما جربت البودرة – هيروين – لقيتها حنينة أكثر من الكودافين، ولما جربتها فى الجنس لقيتها جبارة.. كانت بتخلينى أطّوّل، وده من ضمن الحاجات اللي خليتني احبها أكثر، ولأنها ساعدتني في إني استحمل أبويا وأسلوبه الزفت معايا”

المخدرات هنا تمنح المدمن مهارات اجتماعية وجنسية هو في حاجة إليها، وكان يشعر بنقص شديد بدونها ، لاحظ أن المدمن يستبدل ذاته بالمخدرات فهو يسميها حنينة وهو يشير إلى ذاته التي أصبحت حنينة.

“الكودافين حسسني إني كبير.. مليان.. مش لازم اعمل مشاكل، بالعكس كان بيخليني سياسي ودماغي كبيرة.. ذكي، وهو ده اللى لقيته في الكوكايين والبودرة، وأنا واخدهم بانسى بابا.. شلته من دماغي، وحطيت الضرب مكانه.. كنت باحس بالأمان، وأنا معاه باعرف أفكر لبكره”

القدرة على التعامل مع المواقف الصعبة، وتجاوز المشاعر المؤلمة، والصراعات مع الأهل التي لا تحل إلا بالخضوع أو الهروب للتعاطي.

“اتعرفت على الحب الكبير الأب الكبير الدهب الأحمر.. الكودافين، أشرب إزازه الكودافين، أطلع اخطب مكان حسني مبارك.

كنت باحبه أوي، تماديت فيه أوي، وبقى يخلينى مستريح جداً جداً جداً، بقول كلام حلو، هادئ جدا، أثبت النسوان في التليفون، حلو في الجنس، بيساعدني في المذاكرة.. بيخلينى اعرف اقعد وكمان أركز”.

الكودافين مرة أخرى الذي يساعد على تجاوز مشاكل القلق الاجتماعي والتواصل والتركيز.

“الإكستاسي بقى مش هقولك.. يخليك أسعد إنسان، بيزود هرمون السعادة لأقصى درجه.. بقيت احس إنى أسعد إنسان في الدنيا، وكل حاجة محلولة، وتديني طاقة جامدة قوي، تخلينى ارقص ٣-٤ ساعات، أما الكوكايين فهو أحسن مخدر أخدته في حياتي.. الدماغ العالية أوي حب socialization يدي ثقة قوية أوي في النفس، يحسسك إنك أعظم إنسان في الدنيا ماشي على الأرض، وفيك طاقه قويه جداً”.

التحول هنا إلى أنواع المخدرات المثيرة للجهاز العصبي، والتي ترفع الطاقة النفسية والعصبية إلى أبعادها القصوى، وقد تصل إلى مستويات من ضلال العظمة، وهي بعكس الكودافين والهيروين والتي تتميز بتسكينها للجهاز العصبي وتهدئة الآلام والصراعات.

“مشاكلى فى الحياة خلتنى أحس إنى عايز حاجة تملانى، وما احسش بالمشاكل واستهزأ بيها. في العادى باحس إني متكتف وأسناني بتتكتك على بعضها ومش مرتاح، إحساس بالـ stress ومتوتر، ثانية فرحان، ثانية مكتئب، مش عارف فيه إيه؛ مشاعر بتحركنى وبس. وهى بتخلينى ما اتنرفزش كتير واحس إن أنا من جوايا كده عالى، مرتفع، مش بافكر في المشاكل.. حاسس إنى مش مرتبط بيا، ولا بالناس اللى حواليا.. مش جزء منهم ولا مني، منفصل عن الناس.. همَّ في الأرض وأنا فوق، عايز اضحك انبسط، بتطلع روح المرح اللي جوايا.. بتديني حبة مرح، أهم حاجة إن الإنسان يعيش ومخه حر، والأحاسيس دي بتربط المخ وتخليه محدود.. المخدرات بقى تنيم مخك.. تخليك تفقد الإحساس بس، بس لما تفوق الحاجات دى تشوفها تضربك؛ عواطف ومشاعر وحاجات عمالة تنزل زي السيل مش قادر املكها ولا احطها في مكانها، باحس إني زي المصفاه، والمخدرات تخليك تحس بالارتياح.. إنت بتاخد المخدرات عشان ماتبقاش عبد الأحاسيس والمشاعر”.

الخواء مرة أخرى.. الواقع الذاتي والواقع العام كلاهما مؤلم، والتعاطي يساعده على الانفصال عن الواقعين والارتفاع فوقهما، كما يشرح المدمن حالة التقلب الوجداني الذي يجعله عرضة لحالات وجدانية شديدة، عاصفة ومؤلمة، ولأنه لم يعالج نفسيا من تلك الحالات، فقد وجد في المخدرات شفاءه، وهي نظرية في تفسير الإدمان تسمى التداوي الذاتي.

“المخدرات بتخليني طايح في الدنيا، مايبقاش عندي مبادئ، وساعات يبقى عندي بس لمدة دقيقة، ساعات وأنا ضارب أشبه نفسي بالعظماء زي السادات، بيضرب بس مابيسرقش ورئيس جمهورية، وبوب مارلى بيشرب وعنده creation وحياته ناجحة، فابقى نفسى أبقى كده باشرب وانجح”.

المخدرات تحرك داخلنا مستوى بدائي من الوجود الإنساني قبل وجود المبادئ الأخلاقية، لذلك نجد كثيرا من المدمنين يقومون بسلوكيات قبل حضارية، وذلك لأنهم لم يعودوا يشعرون بها، أشياء مثل الضمير والإحساس بالذنب كلها تضعف تدريجيا مع الاستمرار في التعاطي، وحلم المدمن هنا أن يستمر في التعاطي وينجح في الحياة، وهو الحلم الذي لا يحدث أبدا، لكن المدمن يستمر في هذا الحلم إلى الأبد.. إنه لا يستطيع تخيل نفسه بعيدا عن المخدرات.

“أنا قبل ما آخد مخدرات كنت طول عمرى عايش بنت بنوت.. أبويا بيخاف عليا من كل حاجة ومن أي حاجة.. كنت واحد فاضي.. المخدرات خليتني بقى أنا اللى اتعامل مش أبويا. المخدرات موتّت عندي حتة البنت بنوت دي، وخلت قلبي ميت ماخافش على حاجة خالص، ماخافش من حاجة خالص.. حياتى كانت عادية، وأقل كمان، لغاية لما دخلت فيها. بلاقي في المخدرات أصحابي الحقيقيين زي الحشيش، الحشيش بقى صاحبي.. كان ممكن يبقى قاعد معايا وأنا لوحدي، وهو ده الوحيد اللي يقعد معايا. بعد كده عرفت النيوبان وفضلت مصاحبه فترة، بس هو غدار، كنت بعد كده باخده عشان يمسك جسمي، هو كان بيخليني زي الأهبل، بعد كده عرفت أجيب الترامادول، وفضل معايا أعز صاحب، عشرة عمر، مافرقناش غير البودرة.. أنا كل حاجة شربتها أديتها حقها، البودرة بقى كان عندي عشرين سنة، كانت بالنسبة لىَّ الساحرة.. كانت بتخلينى باشا.. واحد باشا، بس البودرة عاملة زى المرة الرفق، ماتقدرش تستغنى عنها ولا عمرك تزهق منها، وسيبت صاحبي الحشيش وسيبت صاحبي الترمادول. البودرة هى المرأة الوحيدة اللي حبتها في حياتى وعوضتنى عن حاجات كتير”.

مرة أخرى دور التعاطي في تطور الشخصية، تجاوز الصراعات الأسرية، ليس فقط استبدال العلاقات الإنسانية التي يحتاجها ويخاف منها المدمن، لكن التعامل معها على أنها مجموعة من الأصدقاء والعلاقات لها طعمها وطبيعتها الخاصة.

“المخدرات بقى بتمثل لي كل حاجة في حياتي.. عشان اعرف أعمل أي حاجة، لازم يكون فيه مخدرات، الإنسان العادى يقوم يغسل وشه ويفطر وبتاع، أنا لو مفيش مخدرات ما أعملش حاجة، لو ما أخدتش يبقى كأنى عيان وقاعد في البيت تعبان فعلا”

هذه مرحلة متأخرة في الإدمان، حيث تتحول المخدرات إلى مجرد دواء، وتكون قد فقدت كل ميزاتها السابقة.

“هما كلمتين وخلاص، المخدرات كانت بالنسبة لي أكسير الحياة، هي اللي مخلياني عايش كويس، لابس كويس، أقعد مع الجن اكلمه، العب كل حاجة.. ليا في كل حاجة، في الدين في السياسة في كل حاجة. مفيش حاجة بتتقال إلا ليا فيها، دخلت على ناس متطرفين أنا منهم، ناس بتتكلم في السياسة أنا بافهم، بنات أنا دنجوان عصري، عربية صاحبى بايظة أنا ميكانيكي، تليفزيون بايظ أفكه، ما اعرفش هايتصلح ولا لأ، بس باقعد اجادل”

يعيش المدمن في عالم خيالي من الإمكانيات اللانهائية، وعندما يتوقف يكتشف أنه بلا أي مهارة، وهذا مستوى من الوجود الذهاني الذي يتشكل تدريجيا مع التعاطي ويعيق المدمن عن رؤية واقعه المنهار.

“طول عمري كنت حاسة أني شرموطة، زي امي ماكانت بتقولي.. خالي اتحرش بيا وقلتلها، قالتلي اخويا مايعملش كده، لكن أنا عارفاكي شرموطة، الحاجة الوحيدة اللي طمنتني وخلصتني من الإحساس ده هي المخدرات.. قبلها كنت امشي في الشارع أحس إن الناس بيتفرجوا على الشرموطة.”

مرة أخرى المخدرات تساعد على تجاوز كثير من المشاعر المؤلمة، والتي قد يساعد العلاج النفسي معها بدلا من التعاطي.

“حاسس أن إحنا عايشين في مسرحية، واحد عملها وخلانا نمثل عشان يتفرج علينا، وفي الآخر هيعذبنا، طب أنا بقى مش عايز امثل، عشان كده عايز أموت وعشان كده باخد مخدرات”

رفض الواقع بكل قسوته وغموضه وافتقاده للمعنى قد يدفع كثير من المدمنين إلى الانتحار المباشر أو غير المباشر باستخدام المخدرات.

وأخيرا.. فإن أغلب هؤلاء المدمنين قد توقفوا عن التعاطي ويعيشون حياة حقيقية واقعية بدون مخدرات، وقد قال لي أحدهم ضاحكا أمس، وهو مدمن مبطل منذ سنوات: بكافح يوميا عشان ما اضربش، وأملي إن ربنا يقدر ده ويدخلني الجنة، وهناك بقى ها اقعد على جبال الهيروين واضرب براحتي.. البودرة مسحوق أمسه الشيطان.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان