(1)
من حيث المبدأ، اعتقد أن أخطر ما ينال مبدعا من محبيه هو “القتل احتفاء”، بالتطبيل والتهليل له (لدى حصوله على جائزة، أو عند وفاته) وتحويل انتاجه الفكري/الأدبي لأيقونة يتم التبرك بها في مواسمها المعلومة، وربما نشير لها بشكل عابر على سبيل استعراض المعلومات وسعة الاطلاع، لكن مكانها الوحيد -في غير المواسم- يبقى في المتحف. لا يجب أن نسمح بأن يحدث ذلك مع مبدع فذ من طبقة الراحل الكبير جمال الغيطاني.. حقه علينا ألا ندفن مشروعه الأدبي الاستثنائي للمتحف، حتى وإن تم هذا “الدفن” على وقع ديباجات المدح والثناء.
مقابل “القتل احتفاء”، أؤمن “بالإحياء نقدا وتفاعلا”، فالنقاش النقدي لعمل أي مفكر/مبدع، هو الوسيلة الوحيدة لإبقاء هذا العمل حيا.. نناقشه، ونهضمه، ونتفاعل معه بالحوار والنقد، ونتجاوزه عند الضرورة، لكنه يبقى حيا فينا في كل الأحوال (حتى عند تجاوزه، فهو يصبح جزء من تكويننا وإرثنا).. هذا في ظني هو واجبنا نحو مبدع فذ من طبقة جمال الغيطاني.
(2)
ملحوظة شخصية خارج السياق قليلا:
اسعدني الحظ بالتعرف على جمال الغيطاني عند زيارته لبيروت في وفد نصف رسمي/نصف شعبي للتضامن مع لبنان أثناء عدوان 2006، وكان من حظي أن رئيسي في العمل –وقتذاك- السفير القدير حسين ضرار، طلب مني مرافقته هو ومجموعة الأدباء والكتاب التي شاركت في الوفد (وضمت، بين آخرين، يوسف القعيد ومحمد سلماوي وعبد الله السناوي وجمال فهمي).. المهم.. جرّنا الحديث إلى نجيب محفوظ، واعتراف متبادل مني ومن الغيطاني بأننا نتعامل مع رواياته كالشعر (أي أننا نحفظ أجزاء كاملة منها، ولا نكتفي بقراءتها!)، فأمضينا ساعات نتبارى في “مطارحات روائية” (على طريقة المطارحات الشعرية) من روايات نجيب محفوظ وسط مراقبة مندهشة من القعيد والسناوي وفهمي وسلماوي (الذي أشار لهذا السجال المحفوظي في مقال كتبه بعد عودته من الرحلة ونشره في المصري اليوم) وضحكات صافية من جمال عبارات محفوظ وحسها الساخر العظيم.
واكرمني الغيطاني لدى عودته للقاهرة بمقال شديد اللطف والمجاملة، نشره في في “أخبار الأدب”، ونشأت صداقة بيننا استمرت على البعد (فلم تسمح الظروف سوى بلقاءات متناثرة)، ولم يضعفها خلاف في وجهات النظر بشأن قضايا سياسية وأدبية مختلفة، وبطبيعة الحال اشعر الآن بخسارة فادحة، لأن مشروع الصداقة هذا لم يتح له أن يتطور، مما حرمني -ولا شك- من متعة وفائدة لا تعوض.. الله يرحمه.
(3)
عودة للسياق: من منطلق “الإحياء نقدا وتفاعلا بدلا من القتل احتفاء”، لدي 4 ملاحظات سريعة، أضعها هنا في عجالة كرؤوس أقلام لنقاش مطلوب في رأيي حول جمال الغيطاني وأعماله:
أ- اعتقد أن قصص جمال الغيطاني القصيرة (مجموعتي أرض-أرض وحكايات الغريب مثلا) وتجربته في الرواية القصيرة Novella (الرفاعي مثلا)، تمثل جزء لم يحظ بالاهتمام الكافي من قرائه ونقاد مشروعه الأدبي، رغم أن به حرفية شديدة ومتعة حقيقية، وبلاغة تلغرافية تجدها أيضا في رواياته الأقدم (وقائع حارة الزعفراني، الزيني بركات)، لكنها تراجعت مع الزمن لصالح روايات مرحلته الأخيرة.
ب- بالنسبة لي شخصيا، لم اغرم بخاصية “أولوية الفيض السردي خصما من البنية الروائية” التي حكمت أعماله الأخيرة، وجعلتها -بنظري- أقرب لتمارين بلاغية وشكلية أكثر من كونها أعمال روائية بالمعنى المتعارف عليه، وظللت منحازا بشكل حاسم لرواياته الأولى -وخاصة الزعفراني- التي دهش الغيطاني عندما وجدني احفظ مقاطع كاملة منها، كما أفعل، ويفعل هو شخصيا، مع روايات نجيب محفوظ.. المسألة طبعا بها قسم يتعلق بالأذواق الشخصية المختلفة، لكن لها وجها آخر يتعلق بنقاش نظري ونقدي مهم حول علاقة البنية الأدبية بالمضمون، خاصة في فن الرواية. وهو نقاش مفيد وصحي في كل الأحوال، وليس فقط في سياق تقييم “وإحياء” أعمال الغيطاني.
ج- أما عن تجربة الغيطاني كصحفي في أخبار الأدب، فهي مهمة جدا في رأيي.. كانت جريدة جدية ظهرت في لحظة صعبة في التاريخ الثقافي المصري، وعلى وقع تراجع شديد في حجم الانتاج الأدبي المصري في مطلع التسعينيات، رغم وجود بعض الأعمال ذات القيمة الأدبية الممتازة، فالنقلة الكمية الكبيرة في الانتاج الأدبي المصري بدأت مع مطلع الألفية، بفضل منافذ جديدة لنشر الانتاج الأدبي كان من بينها أخبار الأدب، وعدد من دور النشر التي ظهرت في تلك المرحلة أشهرها طبعا دارميريت، ثم إن هذه الجريدة الجادة صدرت عن مؤسسة صحفية ليس الاهتمام بالأدب الجاد من أهم صفاتها! لهذا، كانت تجربة الغيطاني في أخبار الأدب بكل المعاني تغريدا خارج السرب، ونموذجا للتمسك بالحق في اتخاذ مواقف نقدية (من سياسات وزارة الثقافة وقتها على سبيل المثال) في جريدة حكومية.
د- وأما بالنسبة لدوره في “المعارك الهوياتية” منذ التسعينيات، والذي لاحظت احتفاء كبيرا به في أغلب ما قرأت اليوم عن الغيطاني، فليس أهم ما قدم الغيطاني في رأيي، بل إنني اعتقد أن هذه المعركة استنزفت قدراته الإبداعية العظيمة في الاشتباك مع تناقض ثانوي، خصما من المشكلة الأساسية التي نعيشها في مصر والمنطقة (فالقضية الهوياتية في نظري، هي عرض لمرض أهم هو التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في المجتمع في العقود الأربعة الأخيرة)، لكن هذا على أي حال نقاش آخر، وكان أحد أهم مناطق الخلاف والنقاش الممتع مع الغيطاني في لقاءاتنا المتفرقة، أذكر منها مرة تساجلنا فيها طويلا حول عمل أسامة أنور عكاشة “الراية البيضا”، الذي تبنى نفس فكرة التناقض الهوياتي كتناقض مركزي، وكنت أراه أنا أضعف أعمال أسامة أنور عكاشة، بينما أحبه الغيطاني ودافع عنه كثيرا!
(4)
ملاحظة شخصية ليست خارج السياق تماما:
علاقة أعمال الأديب الكبير بقارئ يحبه تتحول في لحظة ما لعلاقة شخصية. بالنسبة لي، لدي هذه العلاقة مع رواية “وقائع حارة الزعفراني” بشكل خاص، ليس فقط لطابعها المحفوظي (نسبة لنجيب محفوظ) الذي كان كفيلا بمغازلة نقطة ضعفي الكبيرة تجاه نجيب محفوظ وتابعيه بإحسان، وإنما أيضا للغتها الساحرة وبنائها الرشيق، وسخريتها الرقيقة.
وبالسبة لي كقارئ، فإن العبارات اللامعة التي تضيء على فكرة/واقع ما، تأتي على رأس العلامات التي تتركها رواية عندي بعد قراءتها.
وبهذا المعنى، ستبقى عبارات لا تنسى من “وقائع حارة الزعفراني” على رأس ما تحفظ ذاكرتي لجمال الغيطاني.
منها مثلا، التحية التي فرضها الساحر على أهل الحارة “هذا زمن الفرار” بدلا من أي تحية أخرى، والتي حلت على ذاكرتي مرارا منذ قرأتها أول مرة.
ومنها أيضا، بل وعلى رأسها، العبارة البديعة التي اختتمت بها الرواية لتختصر كل سخريتها ومغزاها وحكمتها: “لقد بدأ زمن الطلسم.. ليتغير العالم”!
وهذه أيضا لا تخلو حياتنا، وما بها من عبث، مما يذكرنا بها.
رحم الله جمال الغيطاني.. ونفعنا بما كتب.