اليوم : الثلاثاء 17 نوفمبر 2015

شغلت أنباء رئيس الوزراء الكندي الجديد “الشاب” انتباه الجميع خلال الأسابيع الماضية، وانتشرت الصور والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي حول العالم، وطبعاً مصر ليست استثناء إن لم تكن هي الأكثر عرضاً لخبر فوزه من جوانب مختلفة ومثيرة للاهتمام للغاية.

التعليق الأول كان يتعلق بـ “صغر سن” الرئيس الجديد وطبعا بدون أدنى شك الأمر بعيد عنا شكلا وموضوعاً، وربما كانت العبارة الأشهر التي أصبحنا نرددها من باب السخرية والرثاء أيضا في مثل هذه الحالات التي لا تشبهنا لدرجة كوننا نعتبرها من المستحيلات عبارة “زي عندنا بالظبط”!

شوفتوا رئيس الوزراء صغير إزاي؟ زي عندنا بالظبط، شوفتوا طويل إزاي؟ زي عندنا بالظبط، شوفتوا حلو إزاي؟ زي عندنا بس مش بالظبط.

العجيب  أن جزء واحدا فقط من خطابه قد انتشر كالنار في الهشيم، واختاره المصريون وبعض العرب بالذات ليصبح ربما “البوست الأكثر تكرارا” في عدد مرات إعادة نشره على الصفحات الشخصية.

فبعيدا عن الاهتمام بمؤهلاته أو طموحاته، وقصة نجاحه، وسياسات حزبه التي ربما لم تلفت نظر البعض، عوضا عن ذلك تم الاهتمام بهذا الجزء الصغير جدا والمقتطع من سياق حديثه لمواطنيه بعد إعلان فوزه.

في هذا المقطع من حديثه يتكلم رئيس الوزراء الكندي الجديد بحماس وتأثر عن السيدة المسلمة التي انتخبته وقابلته لتخبره أن اختيارها له جاء لأنها تريد أن توفر لابنتها في المستقبل حرية في اتخاذ قراراتها، وكان المفهوم من السياق هو حرية الفتاة في ارتداء غطاء الرأس.

ضجت القاعة بالتصفيق وربما صيحات الإعجاب بعد هذه الكلمات القليلة، ربما لأسباب موضوعية أو عاطفية، لكنها بالطبع مفهومة لأي صاحب عقل، ففي مجتمعات متحضرة كتلك، تصبح قيمة الاختلاف والحفاظ على الحريات من المبادئ الضرورية المتفق عليها لدى جميع أفراد المجتمع المتحضر، وتصبح بمثابة ما هو “معلوم من الدين بالضرورة “، والدين هنا هو الحفاظ على حرية الإنسان كما خلقها الله له، الدين هنا هو الحفاظ على حقوق الإنسان والحيوان وكل كائن خلقه الله على الأرض والكواكب المحيطة، الدين هنا هو المساواة بين البشر، أو على الأقل محاولة تضييق الفجوات بين المواطنين من ذوي الأصول المختلفة للحد الأدنى، حتى لو كان أولئك ممن يدينون المجتمع ويرفضون الاندماج مع باقي أفراده.

أما تفسيرنا نحن للمقطع فهو أن الله قد نصر الإسلام وأدخله إلى أراض جديدة وأعزه بنصر مبين، فنحن أولا قد افترضنا جدلا أن غطاء الرأس هو الإسلام بعينه، فالإسلام أنزله الله من وجهة نظر بعض ضيقي الأفق كي تغطي النساء رؤوسهن. أما ثانيا فقد افترض هؤلاء أن تصريح رئيس الوزراء الكندي هو نصر للإسلام وربما تمهيدا لنطق هذا الشاب اليافع للشهادتين.

نسى هؤلاء أن دولة مثل كندا، والتي يعتبرونها هم أنفسهم في سياق آخر “دولة كافرة ” لديها من الدستور والقوانين ما يجعلها تساوي بين مواطنيها بغض النظر عن الديانة أو العرق أو اللون. مثل هذه الدول لا تسأل المواطن عن ديانته ولا تكتب مثل هذه المعتقدات الشخصية في بطاقة الهوية، فالمواطن له حقوقه في كل الأحوال وبدون الحاجة للتفتيش في ضميره عن أشياء يخفيها.

نسى هؤلاء أيضا أو ربما لا يعرفون، وربما نفس السيدة التي أخبرت رئيس الوزراء عن أهمية تمتع ابنتها بالحرية في اتخاذ القرارات لا تعرف أيضا أنها لا تستطع العيش في دولة من تلك التي يقال عليها “مسلمة”، لأنها لن تستطع وقتها أن تحصل لابنتها على مدرسة مجانية جميلة بها معامل ومختبرات ونقاش وتعليم “حقيقي وليس كفتة”، ولن تستطع أن تحصل على رعاية طبية مجانية شاملة خدمة العمليات الجراحية وبدون أن ينسى الجراح “فوطة” صغيرة أو مقص في داخل بطن ابنتها الصغيرة. كما أنها من المستحيل أن تحصل على أتوبيسات تحترم آدمية ابنتها وحدائق خضراء ورصيف تسير عليه ابنتها بدون التعرض لسخافات من المواطنين الشرفاء هنا وهناك.

بعض من اختاروا الحياة في الدول الكافرة يختارون انتخاب الأحزاب التي تقع على أقصى اليسار ليحصلون بذلك على أجمل ما في الديموقراطية والحرية بمفهوميهما الغربي، بينما يعودون لأوطانهم ليختارون أقصى اليمين المتطرف للحفاظ على الإسلام من وجهة نظرهم بالتضييق على حريات الآخرين من المواطنين الذين يعتقدون أنهم لا يستحقون الحياة في بلدانهم الشريفة.

يهلل الجميع لدخول أي شخص أجنبي للدين الإسلامي، كأن دين الله في حاجة دائمة لبرهان ليجعله يستمر على قيد الحياة، كأن دخول أي فرد جديد في دائرة المسلمين نصرا لهم جميعا، أي انبطاح وفقدان للثقة في النفس والهوية هذا الذي نعاني منه، ويجعلنا بالضرورة نفكر بهذا الأسلوب الانهزامي للبحث عن انتصارات زائفة.

يهلل بعض الشباب المتحمس على “الفيسبوك” لرؤية تمثال لفتاة ترتدي غطاء الرأس قد وضع في إحدى الميادين في عاصمة من العواصم الأوروبية للدلالة على التنوع الثقافي وقبول الآخر، ويتناسون أنهم لن يقبلوا بوجود أي تمثال أو حتى رمز يمثل أي اعتقاد ديني أو ثقافي مغاير في الحي الذي يقطنون به!  التمثال هنا يا حضرات لا يعنيه غطاء الرأس على الإطلاق، التمثال فقط رسالة للدلالة على قبول الآخر، التمثال رسالة للدلالة على إيه؟ على “قبول الآخر” يا حضرات، فهل تقبلون أنتم “الآخر” بأي شكل من الأشكال؟ سؤال نعرف كلنا إجابته بكل أسف.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك