اليوم : الثلاثاء 15 سبتمبر 2015

عندما علمت أن الكاتبة الشابة شيرين هنائي تستعد لنشر روايتها الجديدة “ذئاب يلوستون”، انتابني شعور بالتوجس من عنوان الرواية وعن الأجواء التي تدور أحداثها فيها، وهي في عوالم السكان الأصيلين لأمريكا الشمالية. الفكرة هي: هل يستطيع كاتب عربي، الانفصال عن الواقع الشرق أوسطي الأليم، والذي يفرض نفسه عليك، ويتغلغل في عقلك الباطن، فلا يترك لك مساحة للتحليق في عوالم أدبية أخرى؟ هذا كان التحدي أمام شيرين هنائي, الهروب من الواقع العربي واختراق عالم بعيد جدا ومختلف تماما عن عالمنا العربي بصراعاته ودمائه ومركّباته السيكولوجية والاجتماعية المعقدة. لكن هل فعلا عالمنا العربي بعيد جدا عن عالم السكان الأصليين لأمريكا؟ ربما تغير رأيك بعد قراءة الرواية.

بدون الخوض في تفاصيل أحداث الرواية, والتي تتداخل وتتشعب في جو يتأرجح بين الواقع والفنتازيا, فتفقد تتابع الخط الواقعي للأحداث, ويتركك تحتار بين تشابك حكايات الماضي بأحداث الحاضر بخيالات ذئب وحيد.

تدور أحداث الرواية حول الصحفي برادلي جولدنج ذو النزعة العنصرية ويقوم بتحقيق صحفي حول ليو كوتنوار قاتل آخر ذئاب محمية يلوستون الواقعة في ولاية وايومنج، وتمتد منها لولايتي مونتانا وآيداهو.. يبدأ برادلي التحقيق الصحفي مقتنعا أنه سوف يحقق منه منفعة شخصية في عمله، لكنه حين يبدأ في قراءة مذكرات العجوز كوتنوار، يجد نفسه يغرق في عالم من الغموض، والذي يتخلل إلى أعماقه ويمسه هو شخصيا.

لو أنت من متابعي أعمال شيرين هنائي من البداية، فربما تصدمك رواية ذئاب يلوستون، وربما لا تستطيع تكملة قراءتها, وذلك لأنها فعلا رواية مختلفة. عرفت شيرين هنائي برواياتها ذات الطابع الماورائي المشوب بلمسة رعب، ففي روايتها الأولى “نيكروفيليا” كانت رواية قصيرة، لكن صادمة لما تناولته من موضوع شائك سايكولوجيا.

في روايتها الثانية “صندوق الدمى” وضحت موهبة هنائي، وأخذت في التشكل، لكن كان ينقصها العمق الأدبي والفلسفي، لذا خرجت نهاية الرواية ساذجة وسطحية مقارنة بجودة حبكة الأحداث والشخصيات. ثم جاءت رواية “طغراء”، والتي اعتبر أن الفصل الثاني فيها – الجزء التاريخي حول شخصية صلاح الدولة النجمي- هو من أجمل ما قرأت في الروايات المصرية الحديثة. ثم جاءت “ذئاب يلوستون” لتكون مختلفة تماما عن الخط الذي تميزت فيه هنائي, لذا هاجمها العديد على هذا التغيير، بل إن البعض كرهوا الرواية، ولم يقبلوها إطلاقا. لكن بعد مراجعتي لبعض ما قيل لشرين حول ذئاب يلوستون, وجدت أن معظم النقد لا يتناول عمق الرواية، واقتصر على مجرد كلام من نوعية: “لماذا تركت عالمنا العربي لتكتبي عن أمريكا؟”.. “لماذا تركت الخط الذي تعودنا عليكِ فيه لتكتبي رواية واقعية؟”, لكن لم يكلف أحد منهم نفسه للخوض في يلوستون ورؤية ما هي حقيقتها.

“ذئاب يلوستون”, وكما علقت هنائي شخصيا, تتحدث عن الصراع من أجل الهوية، في مقابل الغزو الأجنبي.. تُرى هل يذكرك هذا بشيء؟ طوال وقت قراءتي للرواية، وأنا أرى المتوازيات بين “عالم يلوستون” القابع خلف المحيط وبين عالمنا العربي الذي نعيش فيه.. إنها نفس القصة.. إنه المستعمر الأجنبي الذي يحاول فرض سطوته على كل ما تطوله يده, وفي المقابل تجد السكان الأصليين يصارعون من أجل البقاء ومن أجل الحفاظ على هويتهم. تأتي براعة شيرين هنائي في هذه الرواية في أن هذه الرمزية كانت في مستوى عميق جدا من الرواية والأحداث, فلا تضايقك فجاجة التشبيه والرمزية الصريحة, وتترك للقاريء مساحة التخيل والتعمق لاستنتاج ما بين السطور.

اعترف أنني انتابني القلق للحظة حينما أدركت أن الرواية تحتوي على مثل تلك الرمزية، وذلك خوفا من تكرار صدمة نهاية رواية “صندوق الدمى”، والتي أفسدت الرواية تماما عندما هجمت الفجاجة على الخط الرمزي، فقتلت الرواية، لكن هذا لم يحدث في يلوستون وحافظت الكاتبة على هذا الستار الخفي للرمزية حتى آخر الرواية، مما جعل منها عملا أدبيا متماسكا وقويا.

ومن هذا نستنتج أن موهبة شيرين هنائي تتطور عملا بعد الآخر على مختلف المستويات.. في الفكر والحبكة وعمق الشخصيات، وأيضا يجب علينا ألا نغفل قدرة هنائي اللغوية التي تقدمت بشكل مبهر، وتتضح من تمكنها من اللغة والمترادفات والتركيبات اللغوية, خصوصا أن رواية “يلوستون” تعتبر من الروايات القليلة جدا في الأدب العربي المكتوبة عن العالم الغربي بأصل لغة عربية، وليس عن ترجمة، ويجب أيضا أن نشهد للكاتبة على قدراتها البحثية والإعداد الثقافي والجغرافي والاجتماعي للبيئة التي تدور فيها أحداث الرواية, و الذي أعتقد أن الكاتبة نجحت بشكل كبير فيه, فلم أشعر مطلقا طوال صفحات الرواية بأي حساسية أخلاقية أو اجتماعية تنم على أن كاتبة الرواية هي عربية شرقية مسلمة, بل هي شخص تشّبع تماما بعالم الرواية وجميع عناصره, وهنا تكمن الموهبة الحقيقية لهنائي.

شهادة حق مني, و بعد قراءة العديد من روايات الكتاب الشباب في الأعوام الأخيرة, أرى أن شيرين هنائي هي موهبة أدبية حقيقية، في الوقت الذي ينتشر فيه الكثير من مدعي الأدب وأنصاف الأدباء، والذين حولوا الأدب لتجارة رابحة, فيكتبون فقط ما يجد رواجا عند الشباب محدودي الثقافة الأدبية ومدعي الثقافة.

اعرف أن شيرين هنائي لا تفرح بهذا النوع من الإطراء، وأنها تكن كل الاحترام لأبناء جيلها من الكتاب الشباب, لكن هذه كلمة حق وسوف يثبت الزمن صحتها مع كل عمل روائي لها، خصوصا أنها لاتزال شابة وأمامها الكثير لتقدمه. تابعوا كاتبة موهوبة مثل شيرين هنائي ولا تضيعوا وقتكم مع أنصاف المواهب.

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان