لا أفهم التصميم الغريب من النظام الحالي على إصدار أكبر عدد من القوانين المهمة والحساسة في غياب المجلس التشريعي, بالرغم من تأكيد الرئيس السيسي على أنه سيكون هناك برلمانا بنهاية العام الحالي.. هناك بعض التفسيرات وصلت إليها بعد تفكير محاولا تفسير هذه الظاهرة الغريبة والتصميم العجيب.
أولا: ربما لا يدرك النظام مهام البرلمانات وفكرة السلطة التشريعية من الأساس.. يبدو هذا واضحا بعد تجربة إصدار قوانين مثل قانون التظاهر بدون برلمان وبدون حتى دستور, ورأوا أنه لم يكن هناك أي مشكلة ومرت الأزمة بسلام والمحاكم تستخدم القانون الجديد بدون مشاكل.. يبقى إيه لازمة أم البرلمان بقى؟
ثانيا: ربما يدرك النظام مهام البرلمان، لكنه يخشى في وجود برلمان أن تكون هناك نوعا ما من المعارضة تمنعهم من إصدار القوانين بالشكل الذي يناسب النظام تماما دون أي تدخل أو تعديل. في هذه الحالة طبعا لا حاجة بأن نقول إن هذا نوع من التحايل على القانون والدستور.
السبب الثالث ربما يكون هو أن النظام مدرك تماما لكل شيء ولقيمة البرلمان، لكنه ببساطة قرر أن يكون نظام أحادي شمولي قمعي ديكتاتوري بالمفتشر كده، و ضرب بكل الأعراف والقوانين والأحكام الدستورية عرض الحائط وحكم الدولة بقبضة حديدية، واللي مش عاجبه يتفلق أو يُعتقل, أيهما اقرب يعني.
أنا شخصيا أعتقد أنه خليط من هذا على ذاك.. بمعنى أن هذا النظام ورأسه لا يدركون إطلاقا أبسط قواعد العلوم السياسية ومبادئ الديمقراطية والحياة الحزبية, وفي نفس الوقت هم مستمتعون تماما بالدولة العسكرية الشمولية، لأنهم يعتقدون أن هذا هو النظام الأصلح للمصريين، وأيضا سهل عليهم جدا تطبيق القمع.. أيضا يتمتع النظام الحالي بشعبية كبيرة, وهذا يسهل عليه جدا استخدام القمع مع المعارضة وإيجاد التأييد الشعبي لهذا.
أبسط دليل على أن النظام لا يفهم حتى أبسط قواعد السياسة، هو عندما دعا الرئيس السيسي الأحزاب إلى التوحد وخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة عبر “قائمة وطنية جامعة” تضم كل الأحزاب والقوى السياسية.. طبعا هذا الكلام وإن دل، فإنما يدل على سذاجة سياسية حادة, أو مجرد استهزاء بأساسيات الديمقراطية والتعددية الحزبية. الأكثر عبثية بقى هو إن بعض الأحزاب رحبت بهذا الاقتراح!
وجاء أحدث الأمثلة على هذا النمط، وهو إصدار قانون مكافحة الإرهاب الجديد.. علما بأن قانون العقوبات المصري وبعض القوانين الأخرى تغطي تماما أي جريمة قد تندرج تحت بند “الإرهاب”، لذلك لا نجد أي تفسير في أن تسرع الحكومة بإصدار مثل هذا القانون في غياب أي مناقشة في مجلس تشريعي في الوقت الذي يتوقع انعقاده في خلال أشهر قليلة. وبدا واضحا أن الغرض من القانون الجديد هو غطاء قانوني مضاعف للإجراءات الاستثنائية التي تتخذها قوات الأمن فيما يعتقدون أنه سيقلل من العمليات الإرهابية. فتجد المادة 8 من القانون مثلا تنص على: “لا يسأل جنائيا القائمون على تنفيذ أحكام هذا القانون إذا استعملوا القوة لأداء واجباتهم، أو لحماية أنفسهم من خطر محدق يوشك أن يقع على النفس أو الأموال، وذلك كله متى كان استخدامهم لهذا الحق ضروريا وبالقدر الكافي لدفع الخطر”.
وهي صياغة غريبة على القانون المصري تماما، بل وتتعارض مع قوانين أخرى، حيث إن من يقوم بتنفيذ القانون قد يرتكب مخالفة قانونية منصوص عليها في قانون آخر مثلا, فكيف ينص هذا القانون على عدم محاسبته؟!
مثال آخر على لماذا يريد النظام تمرير مثل هذا القانون في غياب مجلس الشعب، وهو استغلال القانون في إعطاء رئيس الجمهورية صلاحية أحكام قانون الطوارئ دون ذكر “حالة طوارئ” فعلا, مما يعد التفافا على أحكام الدستور، فنرى مثلا المادة 53 تقول: “لرئيس الجمهورية، متى قام خطر من أخطار الجرائم الإرهابية أو ترتب عليه كوارث بيئية، أن يصدر قرارا باتخاذ التدابير المناسبة للمحافظة على الأمن والنظام العام، بما في ذلك إخلاء بعض المناطق أو عزلها أو حظر التجول فيها، على أن يتضمن القرار تحديد المنطقة المطبق عليها لمدة لا تجاوز ستة أشهر.” ويعتبر هذا النص مخالفا للمادة 154 من الدستور، التي لم تجز لرئيس الجمهورية إعلان حالة الطوارئ إلا لمدة لا تتجاوز الـ 3 أشهر، ولا تمد إلا لمدة أخرى مماثلة، وذلك بعد موافقة أغلبية أعضاء البرلمان.
هناك العديد من هذه الأمثلة حول كيف يتعارض هذا القانون مع الدستور والقوانين الأخرى, ويمكن مراجعة المزيد في بيان المنظمات الحقوقية (http://eipr.org/pressrelease/2015/07/07/2420).
التلاعب بالقانون لتحقيق درجة أعلى من القمع والتحكم في الحقوق والحريات, حتى ولو كانت الذريعة هي مكافحة الإرهاب, هو من أخطر الخطوات التي قد تتخذها الدولة، فالحصن الأخير للعدالة والحق هو القانون. القانون هو الملاذ الأخير والثابت الوحيد في خضم الجنون والغضب والعنف وكل ما يصاحب الإرهاب والحرب عليه، فإذا بدأنا في التلاعب في القانون والتحايل عليه، فإننا نفتح مجالا للإرهاب بأن ينمو ويكبر.
أرجو من النظام مراجعة موقفه فيما يتعلق بإصدار القوانين التي تحد من الحقوق والحريات, أو على الاقل الانتظار بضعة أشهر حتى يصبح هناك مجلس تشريعي يقوم بهذه المهمة التي خلق من أجلها.