اليوم : الأحد 28 يونيو 2015

هناك حكاية عن أم أمريكية اسمها لايسي سبيرز، أطلقت مدونتها الخاصة عام 2011، بعنوان “رحلة جارنيت”، جارنيت هو ابنها ذو الخمسة أعوام وتوفي بعد رحلة مرضية فقد فيها فصوصا من كبده وتوقفت كليتيه عن العمل، في مدونتها نشرت سبيرز صورا ويوميات لابنها، احتفالهما سويا بعيد الفصح، والميلاد، لحظات مرضه، خروجهم للسينما، وألعابهم سويا، مع المدونة كان حسابها على تويتر ينشر تغريدات عن حالة الطفل حتى مات.

منذ 4 أيام صار اسم لايسي سبيرز، “ترند” على مواقع الأخبار على خلفية محاكمتها بتهمة قتل ابنها ذي الخمسة أعوام جارنيت بول سبيرز. بعد أن أطعمته أكياسا من أملاح الصوديوم. نشرت عدة مواقع إخبارية صورا لها وللطفل، أخذت الصور من مدونة ، قد يشبع هذا جزءا من هوس لايسي للظهور وجذب الانتباه، حتى وإن كانت ستقضي نحو 20 عاما في السجن. حيث تقول مساعدة المدعي العام لولاية ألاباما، باتريشيا ميرفي إن “لايسي كانت تحاول جذب انتباه زملائها وأصدقائها، والأطباء وجمهور السوشيال ميديا، ما دفعها لجريمتها”.

ثمة مرض نفسي يطلق عليه “متلازمة مانشهاوزن” يفسر حالة لايسي، حيث يسعى المصاب به إلى إدعاء المرض واختلاق المآسي لجذب الانتباه، لاسيما مع وجود مساحات السوشيال ميديا. قدّرت المحكمة حالتها وخففت حكم الحبس لعشرين عاما بدلًا من الحبس مدى الحياة.

جذب الانتباه هو لقمة عيش المواقع الإلكترونية الصحفية حاليا، الانتباه يعني ضغطات أكثر وترافيك أكبر يُترجم إلى فرص أكبر للإعلان والأرباح بالتأكيد، عوامل جذب انتباه القارئ في صحافة الويب تعتمد بشكل رئيس على عنصرين يراهما مستخدم أي شبكة اجتماعية “فيس بوك – تويتر – جوجل +”، هما العنوان والصورة الرئيسية للخبر، هما واجهة المحل التي تسحب القارئ للضغط والدخول إلى متن الخبر، ويقع بعض المحررين في فخ التضليل بدلا من جذب القارئ، وفي الحالتين يصنع المحرر خبرا يوضع في قائمة الأكثر قراءة.

في كلاسيكيات السينما التي تناولت مهنة الصحفي، يشرح رئيس تحرير معنى الخبر لأحد محرريه أن “الكلاب دوما تعض البني آدم وأن الخبر هو أن يعض البني آدم كلبا” وبالتأكيد خبر كهذا سيجذب انتباه قراء كثيرين في حالة أن يعض البني آدم كلبا فعلا.

منذ أسبوعين نشرت عدة مواقع مصرية خبرا بالصور عن “ضبط عدة تماثيل لرجال ونساء في أوضاع مخلة”، الصورة الرئيسة للموضوع كانت تمثالين فرعونيين من خبر قديم لضبطية آثار مهربة، والصور بالداخل كانت لشحنة “طفايات سجاير” على أشكال رجال ونساء عارية دخلت عبر ميناء بورسعيد، صودرت الشحنة وصوّرت وكتبت الداخلية بيانا وزّعته على الجرائد والمواقع، ونُشر الخبر بكثير من التضليل ليحقق قدرا كبيرا من الترافيك.

في اليوم نفسه نُشر موضوعا بعنوان “لغز دخول أميتاب تشان الحمام وراء عادل إمام” بالتزامن مع زيارة أميتاب تشان لمصر وظهوره في برنامج تليفزيوني، ما يعني أن اسم النجم الهندي سيحتل قائمة كلمات البحث على Google، اسم الرجل سيكون تريند لعدة أيام بالطبع لأن محبيه سيبحثون أخباره، الموضوع كان يشرح كلمات أغنية انتشرت بين مراهقي بداية الألفية، تضم اسمين يصنعان الترافيك “أميتاب تشان وعادل إمام” وكلمة “لغز” التي تجذب الفضوليين، موضوع طويل لا يقول شيئا، وحافظ على صدارته في قائمة الأكثر قراءة لساعات، وجاءت غالبية القراءات والـ Shares من التعليقات السلبية على الموضوع عبر السوشيال ميديا.

يمكن تحديد مراحل دورة حياة الخبر على السوشيال ميديا والمواقع الإلكترونية، لشرح دورة الخبر يجب معرفة كيفية إدارة المحتوى على المواقع الإلكترونية. تسعى غالبية المواقع للحفاظ على معدّل ثابت للضخ الإخباري/الترفيهي على صفحاتها، تنقل هذا السعي بالتبعية لمحرريها تبعا لسياستها التحريرية، ومنها الإكثار من المحتوى الترفيهي النوعي على حساب المحتوى الخبري الذي يأتي في كثير من الأحيان من البيانات الإخبارية للهيئات الحكومية أو المتحدثين الإعلاميين للهيئات الخاصة، أو من صفحات الشبكات الاجتماعية التي وسّعت من مفهوم الصحافة الشعبية، يصنع المحرر خبرا ويضع له عنوانا أوليا، يمر الخبر على محرر الديسك الذي يضبط إيقاع الخبر لغويا ومنطقيا تبغا لسياسة مؤسسته، ليمر على مسئول النشر الذي يسمح بنشره وتتوزع مسئولية الخبر على الثلاثة، يُعاد نشر الخبر على الشبكات الاجتماعية ليحصد القراءات.

تغيّر التوجه الإعلامي في أواخر 2013، وبعد 30 يونيو، من المحتوى الإخباري الخاص بالتغطيات الإعلامية لأحداث العنف أو تحليل قرارات السلطة لصالح المحتوى الترفيهي عن المعلومات التي لا تعرفها أو خناقات النجوم في برامج المسابقات، أو مؤخرة كيم كارداشيان، في البدء كان المحتوى الترفيهي المقبل على استحياء مطلوبا لأن – كما يؤكد كثير من الصحفيين- الناس زهقت من أخبار السياسة والقتل والقنابل وبحاجة لأخبار خفيفة يقرأونها في المترو أو في ساعات الصفا، هذه حقيقة حتى صار كما يقول بريخت “الحديث عن الأشجار صار جريمة لأنه يعني السكوت عن جرائم أشد هولا” والجرائم الأشد هولا في مصر كثيرة ولا تأخذ حقها في التحليل “قرارات الحرب- قتلى التفجيرات اليومية – الصحفيون المعتقلون- زيادات الأسعار- الأحوال في سيناء – داعش .. إلخ” وبدلا عنها تؤخذ أخبار لا منطقية قدرها من “الهري والمط” من عينة أميتاب تشان، وفتوى إجازة أكل لحم الزوجة.

الأخبار المضللة والتقارير الخفيفة وصحافة البوب كورن بالتأكيد تحقق قدرا من الترافيك، لكنه لن يصل لترافيك موقع بورن واحد في مصر، وبالتأكيد ليست هي الهدف الأساسي من مهنة الصحافة التي تختلف عن عضوية المنتديات الإلكترونية في عصرها الذهبي في 2005-2008، وسيكون عضو المنتدى لو صوّر فيديو لبنات يرقصن في مدرسة متعديا على خصوصيتهن حتى لو نُشر الفيديو على منتدى محلي لا يحظى بزيارات كثيرة، إلا أنه نُشر بلا غضاضة عبر موقع إخباري وحقق قدر ترافيك يسمع لصاحبه بالمطالبة بزيادة أجره!

محرر الويب المحترف في موقع إخباري تجاري هو موظف تُطلب منه مهمات يجب تنفيذها، بعض المواقع تطلب عدد “قطع” إخبارية معينة تملأ فضاء الويب، وتحافظ على معدل ضخ الموضوعات على المواقع وبطبيعة الموظف المصري يستسهل ويقلّب في بروفايلات وبيدجات فيس بوك، ليصنع خبرا يوضع في عنوانه تعبير، أثار جدل “نشطاء” الفيس بوك، ولا مقياس معين لمدى الجدل المثار، ولا مفهوم واضح لكلمة نُشطاء.

رد عليّ زميل سابق عند مناقشته بخصوص موضوع كتبه أن “الزاوية اللي خدها لركوب التريند كانت هي أكثر الأفكار اللي لقاها تفاهة وهتجيب ترافيك”، وفعلًا بعد ساعة كان الموضوع نط على قمة الأكثر قراءة على موقعه والترافيك الذي حققه الموضوع كان من Shares الناس للموضوع والتعليق على مدى وساخة الموضوع وتفاهته، إلا أنه على قمة الأكثر قراءة وحقق المطلوب منه.

 

 

 

 

 

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان

اعلان