لا يمكن ان أصدق الآن أني اقرأ مقالا لعبد الحليم قنديل، الكاتب المتمرد الذي أسس مع آخرين لمدرسة العصيان في الصحافة المصرية، فلم يعد “قنديل” يدعو للعصيان كما كان، بل إن الأشد ألما أن قنديل صار يحارب ضد العصيان في الصحافة والسياسة معا.
ليس عليك الآن إلا أن تقرأ مقالا لعبد الحليم قنديل من تلك التي يكتبها في القدس العربي أو صوت الأمة أو غيرها، وأن تقارن بين نفس الكلام المكتوب وبين مقال كتبه عبد الله كمال أو كرم جبر في زمن المخلوع مبارك، فالإثنان ينطلقان من أرضية واحدة.. الرئيس تمام ورائع ومدهش والأزمة الكبرى في هؤلاء الأوغاد الذين يلتفون حوله.. فقط كان كمال وجبر يصيغان جملهما بشكل، بينما يصيغ قنديل جمله الآن بشكل مختلف.. إلا أن المعنى والمضون واحد لا يتغير.
مرة ثانية لم أصدق عيني وأنا أقرأ مقالا لعبد الحليم قنديل يحاول فيه إحباط الشباب ويدعوهم إلى الاستسلام.. يبشرهم بأن السيسي قدرهم المكتوب، وأن الثورةعليه وعلى نظامه حلم بعيد المنال، وأن كل محاولات استنساخ حركة كفاية ستبوء بالفشل، وأن الدعوة للثورة على السيسي هي “مجرد” عبط ولعب عيال.
الحقيقة أن المقال بفكرته البائسة جعلني أتأكد أن عبد الحليم قنديل ليس فقط قد تحول عن كتاباته ضد السلطة، التي وصفها هو بنفسه بأنها شبيهه لسلطة مبارك، لكنه قد وصل أيضا لأسلوب الضحك على قارئه والاستخفاف بعقله، لدرجة لا يمكن أن توصف، فالكاتب الكبير الذي أتحفنا بمقالاته عن مبارك وفساد نظامه وأسرته، ينطلق في مقالته العجيبة من أن السيسي فاشل ولا زال يحكم بنفس القواعد القديمة وبنفس رجال دولة مبارك، وأن الفشل يزداد يوما بعد الآخر، والقمع يشتد، والإعلام يعمل بنفس الشكل الذي كان عليه وقت مبارك، والعدالة الإجتماعية غائبة، وميزان العدل مقلوب، إلا أن الثورة لن تحدث.. هكذا ببساطة يمارس قنديل التناقض الغريب، الذي لا ينم إلا عن كاتب يحاول إرضاء السلطة لا نقدها.. يقدم لها عربون محبة، لا يناشدها أن تنصلح أو تتغير.
ما لم يقله عبد الحليم قنديل في مقاله العجيب، هو أن لا أحد أصلا يسعى لاستنساخ تجربة كفاية، فالتجربة المحترمة إبنة زمانها وظروفها، والفارق واضح بين “كفاية” و”البداية”.
“كفاية” كانت تحاول أن تبث روحا صعدت بالفعل إلى بارئها، في مجتمع جثم مبارك على أنفاسه 30 عاما متصلة، بينما “البداية” تجمع أرواحا موجودة بالفعل، لتنتشلها من إحباط حكم السيسي الذي يحاول عبد الحليم قنديل الآن إبقائه وإرضائه، وتؤمن أنه إذا حدث هذا، فإن المشهد البائس القائم سيتغير لا محالة.
“كفاية” كانت حركة ضمير لا تحسب قوتها بأعداد أعضائها، بينما “البداية” حركة ضمت في أيامها الأولى آلاف الغاضبين الذين لديهم رغبة جامحة في فرض تغيير أوقفه السيسي باستبداده وبلادة حكمه.
وربما يرى عبد الحليم قنديل الجديد أن الغضب وحده غير كاف، وأن مئات الآلاف من الغاضبين والرافضين للسيسي ونظامه من الفئات الأصغر عمرا لن تصنع التغيير، لكننا نؤمن تماما، كما كان يؤمن عبد الحليم قنديل القديم، أن آلاف الشباب الغاضبين هم الكتلة الحرجة التي تصنع أي تغيير، وهي كتلة جاهزة ومستعدة.. لا على طريقة “كفاية”، بل على طريقة “البداية” التي ترغب في كسر حاجز الإحباط واللغة المعارضة الماسخة، فـ “بداية” تملك الظرف الموضوعي الذي تحدث عنه عبد الحليم قنديل نفسه في مقاله، وهو هذا الفشل الذي يزداد يوما بعد الآخر، وهذا الاستبداد الذي ينمو كل لحظة ، و هذا التردي الذي بلغ أشده علي جميع المستويات سياسية واقتصادية واجتماعية ، فقر و فساد و جوع و بطالة و قمع .. هذا هو الظرف الموضوعي القائم ، و يتبقي صناعة الظرف الذاتي الذي يعني في مفهومنا وحدة و لم شمل كل المؤمنين بثورة 25 يناير والدولة المدنية الديمقراطية و كل الرافضين للنظام المسخ ، وهو ما تسعى “بداية” إليه، وستنجح بإرادة من خرجوا إلى الميادين ليخلعوا نظاما لازال يحكم ويتحكم ويقمع ويتسلط، ويدافع عنه من كانوا يوما معنا!
الحقيقة أني لا أفهم المقارنة الغريبة والمحبطة التي عقدها عبد الحليم قنديل بين “كفاية” و”البداية”، إلا في إطار فهمي لمقالاته الجديدة مقارنة بمقالاته القديمة، ولكل منها مكان، فكما احتفظ التاريخ بالمقالات القديمة في أنصع صفحاته، كلنا يعرف أين سيحتفظ التاريخ بهذه المقالات الجديدة!