في الحديث عن مدينة الرب:
ارتبطت كلمة “الإسكندرية” في الآونه الأخيرة لدى المتابعين وغير المتابعين بـ “الغرق”، مدينة عجوز ما زالت محتفظة ببعض من شبابها وعنفوانه، تغرقها بضع ساعات من الشتاء، بين محافظ احب الترام حب عنتر لعبلة، وأجساد ساقها القدر والإهمال لأن تلقي حتفها بين مياه الشتاء المكهربة.. وقفت مدينة الرب شاهدة علة هذا الزمان، ربما لاعنة قدرها السيء الذي ألقى بها في مصر، ناظرة بعين الغبطة لقريناتها من المدن الأوروبية التي لا يضيرها الشتاء، بل يجعلها أكثر جمالاً.
اكتب اليوم محملا بالشوق والشجن، غالبا ستظهر كتابتي عاطفية نوعا ما، لكن عن من يكون الحديث عاطفيا إذا لم يكن عن مدينة الرب؟!
اللقاء الأول.. هُنا كل شيء مختلف، هُنا الأشياء تنبض بالحياة، وقلبي ينبض لها:
في إحدى زياراتنا لعمتي قاطنة “الفيوم”، كنت صغيرا، ربما لم أتخط العشر سنوات، بعد طريق كان الأطول في حياتي، وفي إحدى الجلسات بصبحة ابنه عمتي أسألها: “هي إسكندرية قريبة من هنا؟”، “لا بعيدة جدا”، إجابة قاسية مازلت أتذكرها برغم السنين، اذكر الإجابة ولا اذكر من أين عرفت الإسكندرية وأحببتها في هذه السن المبكرة، ثمة شغف تمتليء به روحي تجاه مدينة الرب.. اشك أن الإسكندرية أحد خلفاء كيوبيد، تمتلك سهاما تلقي بها إلى القلوب، فتجعلها هائمة في عشقها إلى الأبد.
سنوات تمر، انتظر فيها بحب وشغف لقاء مدينة الرب، إلى أن تدبر ذلك اللقاء حين كنت ابن الخامسة عشر، دعوة من أحد أصدقاء أبي، قاهري أصابه شغف الإسكندرية، أحبها وآثر الإقامة فيها أغلب الوقت.. ذهبنا، طريق طويل، لم اشعر فيه ولو لحظة بوعثاء السفر، فالقلب يرفرف فرحا طربا لقرب لقاء الإسكندرية، وأخيرا وصلنا.
“العوايد”.. هكذا كانت أول محطاتنا في الإسكندرية، على أطراف مدينة الرب وبعيدا عن البحر، بدأت رحلة الوصول إلى شقة الوصول بحي “سيدي بشر” العريق، شوارع كثيرة نمر منها، كلها ذات طابع مختلف، ثمة روح أسطورية تسيطر على هذه المدينة، نتعمق أكثر في جنبات مدينة الرب، الحظ الكنائس وسط البيوت، بعضها لا تجاوره الجوامع كما في القاهرة، التاكسي هو الآخر مختلف هنا. استوقف أبي أحد سائقي التاكسي ليسأله عن الطريق، لم اهتم بما دار بينهما من حديث، فقد كنت منتبها إلى الصليب الذي رسم على كف السائق من الخارج بجوار الإبهام، إنهم لا يرسمون الصليب على الرسغ كما زملائي المسيحيين في المدرسة!
الانبهار، ولا شيء غيره، كل شيء هنا مبهر، الهواء ذاته به رائحة لم تألفها أنفي من قبل.. يا الله، ما هذه الروعه، وصلنا إلى الشقة، ارتحنا من الطريق، ثم نزلنا مرة أخرى، لكن هذه المرة متوجهين إلى البحر، حينها أحسست أن قلبي سيقف من فرط الفرحة والدهشة، يزداد الشغف ولم اعد أقوى على تحمله، ربما صرت الآن أضعف.
مشينا في الطريق إلى البحر، اخبرنا صديق أبي بأن البحر قريب ولا يحتاج لأن نركب “مشروع”، ادهشتني الكلمة إلى أن عرفت أنها ترادف “الميكروباص” في القاهرة، المشي على الأقدام مختلف كثيرا عن ركوب السيارة، هنا الرؤية بانت أوضح، الشوارع أكثر نظافة، المحلات أسماؤها مختلفة، خصوصا المقاهي، المقاهي كثيرة وكل منها تحمل طابعا مميزا لها، أحدها كان الأكثر جذبا لي، إنهم يضعون قائمة للأسعار، بل وتحتوي على أصناف لم اسمع بها من قبل.
مشينا وقتا لا بأس به، عبرنا شريط القطر، ومنه إلى شارع من الشوارع الجانبية المؤيدة للبحر، رأيت البحر بعيدا، وهواءه قريبا.. ثمة قوة دفع تدفعني إلى الخلف، لم تمر عليّ رياح عاتيه كهذه في حياتي، نحن في الصيف، نسيم عليل ذو رائحة مطيبة للنفس مهدهدة للروح، مشيت منتشيا بهذا الهواء الفريد، يا لكِ من إسكندرية!
جلست في مواجهة البحر على مقربة من أحد صناديق القمامة، صندوق قمامة لم اشتم له رائحة كتلك التي اشتمها في شوارع القاهرة، ربما رائحة البحر غطت على كراهته.. زال هذا الشك عندما رأيت عربة القمامة التي يركب الصندوق فيها فترفعه وتفرغه مما فيه، تمر عربة مثل هذه كل دقيقة تقريبا، كان ذلك كافيا لجعلي ابكي تحسرا على حال المدن الأخرى، لكني لم أبك، إسكندرية أجمل، إسكندرية تستحق.
في طريق الرجوع إلى الشقة، ذهبنا لشراء العشاء، أحد محلات الفول المزدحمة، يقف البائع وأمامه قدرتان من قدر الفول، متماثلتان في الحجم، مختلفتان في المحتوى.. إنهم يضعون البليلة على الفول!
كانت فكرة وضع البليلة على الفول، كافية لإصابتي بالذهول والبله، اعرف البليلة تلك التي تشترى من محلات الحلوى والعربات، حلوة مزينة بالمكسرات والزبيب والمبشور، ما علاقة هذا بالفول؟! اتضح أن هذه البليلة مختلفة وليست مُحلاة كما التي أعرفها، كل شيء هنا مختلف، وأنا الآخر صرت مختلفا، لم اعد كما كنت قبل زيارة محبوبتي الإسكندرية، أنا الآن أكثر رغبة في العمل والحياة، هناك ما يستحق الحياة من أجله، هناك إسكندرية.
ثلاثة أيام، كانت كلها مليئة بالمفاجات المبهرة لطفل في سني، يحب الإسكندرية دون سبب، وبعد أن زارها ترك شتات روحه بين جنباتها، أملا في لقاءات أخرى.
واليوم، آثرت أن اكتب عن تلك الإسكندرية، إسكندرية أيام الطفولة الأجمل من إسكندرية الآن، حتى يتبين للقاصي والداني أن دولة مبارك بكل ما أوتيت من قوة وفساد وقدرة على النهب والسرقة، تركت للإسكندرية وجها جميلاً، أما نسختها المعدلة الحالية، فقد افسدت ما لم يمكن إفساده، فأصبحنا أمام مدينة عجوز بحق، إنهم يجعلون الإسكندرية تصرخ: “يا ليت الشباب/مبارك يعود يوما”.. أيهما أقرب!