منذ أربعة أعوام وحتى يومنا هذا، مرت البلاد بالأزمات والتغيرات, السلبي منها أكثر من الإيجابي.. مررنا خلال السنوات الأربع بسلسلة من الحوادث، وقد اعتدنا على ظاهرة معينة دوما ما تعقُب كل حادث، وهي “التبرير”.. أي بدلا من مهاجمة مرتكبي الجريمة والتنديد بالحادث، بل والمطالبة بمعاقبة الجاني وأن “يتخذ القانون مجراه”, نبرر للجاني سلوكه الإجرامي، بل وأحيانا نطعن في نية المجني عليه من خلال الاستناد إلى نظريات ومباديء عقيمة.
يمكننا التطرق إلى تفسير هذه الظاهرة بشكل علمي.. أي نقتحم “سيكولوجيا التبرير”, حيث أكد الفيلسوف مايكل نوفال مدى معاناة النفس البشرية من التبرير عندما قال: “لا حدود معروفة لقدرة الإنسان على خداع نفسه” واستخلاصا لما توصلت إليه مجموعة من علماء النفس, التبرير هو تفسير وتحليل السلوك الخاطيء، لكن بشكل لا شعوري وذلك لاعتقاد الإنسان خطأً أن من خلال إيجاد الأعذار تسقط المسئولية ويرتاح الضمير، فوفقاً لنص بول ريكو عالم الإنسانيات والفيلسوف الفرنسي في “أبحاث في الهرمينوطيقا” (علم الخطابات وهو علم عريق في الثقافات الإنسانية), عملية التبرير قادرة على تشويه المفاهيم وحقيقة الأحداث.
هناك سؤال دوما ما يُطرَح خلال أي محاولات لتفسير أو إيجاد دافع نفسي حقيقي للجوء الشخص إلى التبرير، بدلا من اتخاذ موقف إيجابي حاسم وهو: هل يبرر الشخص كي يٌقنع ذاته أن كل شيء على ما يرام وأفكار أخرى من هذا القبيل، كي تبُث الطمأنينة بداخله؟
وإن عدنا إلى أرض الواقع مرة أخرى نجد أن مع زيادة الأحداث المأسوية تزيد عبارات وتساؤلات من فصيل “ايه اللي وداهم هناك؟” أو “وهو ده وقته؟” في تصدي المشاهد الأولى التي تعقُب الحادث مباشرةً سواء من قِبل مسئول, أو اعلامي أو حتى مواطن من أشباه المُثقفين ذوي النظرة التحليلية التبريرية.
فلنستعيد معا أهم اثنين من بعض الأحداث التي تعتبر بمثابة تجسيد حي لكيفية محاولة التبرير وطمس الحقائق واغفال العقول عنها, فمن أبرز الوقائع التي شغل التبرير الجزء الأكبر من ردود الأفعال التي اعقبتها، هي واقعة الدفاع الجوي والمعروفة إعلامياً “بمجزرة الدفاع الجوي”: فلنتخيل معاً تكدس بشري هائل وكأنهم مئات من الأسرى! نعم أسرى.. فما يكونوا إذا حينما يفُرَض عليهم التواجد في ممر حديدي؟! واستغلالا للتدافع الناتج عن تكدس المئات في ممر ضيق, إذ بقوات الأمن تطلق الغاز المسيل للدموع بشكل مستمر، فيفقد 22 شخص حياتهم اختناقا. حينما كانت مقاطع الفيديو وروايات شهود العيان تؤكد أن الـ 22 قد لقوا مصرعهم نتيجة لإطلاق الغاز عليهم أثناء تواجدهم في القفص الحديدي, كان اهتمام أغلب أعضاء مجلس إدارة نادي الزمالك والإعلاميين- البارزين في عالم فرض الأراء بل والحقائق على المُشاهد على الهواء مباشرة – مُنصَب على سلوك المشجعين مع تجاهل تام لكيفية تعامل قوات الأمن معهم أو تبرير هذا التعامل من خلال توجيه العديد من الاتهامات للضحايا، مثل محاولة اقتحام الأستاد بالقوة أو الدخول بدون تذاكر، بالرغم من أن نجل المستشار مرتضى منصور (رئيس مجلس إدارة نادي الزمالك) قد أكد في اتصال هاتفي مع الإعلامي سيف زاهر في برنامج “ستوديو الحياة” أنهم قد طبعوا عشرة آلاف تذكرة لحضور المباراة، تم بيع 6 أو 7 آلاف تذكرة فقط منها، وأنه لم يتم بيع التذاكر المتبقية، لأن هذه أول تجربة لهم (نادي الزمالك) بعد 3 سنين، وقد نسوا كيفية دخول الجمهور الأستاد!
لنأتي إلى الحادث الثاني وهو “حادث الواحات”, والذي اشتهر بحادث السياح المكسيكيين (لكن راح ضحيته مصريين ومكسيكيين)، بعد التدقيق في تفاصيل الحادث، وما أعقبه من ردود أفعال, هناك ما يثير الامتعاض والغضب أكثر من معرفة أن قوات الأمن قد قصفت مجموعة سياحية بطائرة حربية أثناء تناولهم الطعام في الصحراء الغربية المصرية، مما أدى إلى مقتل 12 مكسيكيا ومصريا وإصابة 10 آخرين “بالخطأ” أثناء مطاردة بعض العناصر الإرهابية, وهو تسخير وسائل الاعلام لعرض تبريرات فقط و ربما كان ذلك املاً في تخفيف الصدمة الناتجة من غرابة الحادث وقد تمثلت هذه التبريرات في:
– اتهام المجموعة السياحية بعدم الحصول على تصريح بالموافقة على الرحلة السياحية (بالرغم من أن بيان النقابة العامة للمرشدين السياحيين يحتوي على تصريح به موافقة الأمن على رحلة الفوج السياحي للواحات البحرية).
– اتهام هذه المجموعة باختراق منطقة محظورة (بالرغم من غياب أي دلائل أو علامات تحذيرية إرشادية والتي من المفترض أن تتواجد في أي منطقة صحراوية محظورة).
تم التركيز على توجيه مثل هذه الإتهامات بدلا من تكثيف الجهود في محاسبة الإدارات المسئولة عن الإهمال الذي نتج عنه مثل هذا الخطأ الفادح.
الحد من الأحداث الكارثية وعودة حقوق ضحاياها، لن يتم إلا من خلال كشف تفاصيل الحادث بشفافية, التحقيق الدقيق والعقاب الرادع لا بالإبتكار في إيجاد الاعذار، والذي دوما ما يتطلب تجاوز القانون.