إنني لا أستطيع أن أحصل على صورتي الـ “سيلفي” مع مورجان فريمان؟ يا للهول!! قلتها على طريقة عنوان باكورة أفلام النجم الأسمر “الحليوة”: من يقول إنني لا أستطيع ركوب قوس قزح؟، وأنا محبوسة في مصعد تعطل بي بين دورين وأحاول أن أطرد كل هواجسي فأستعير صوت محمود درويش في قصيدته ” أحمد الزعتر”:
عشرين عاماً كان يسألْ
عشرين عاماً كان يرحلْ
عشرين عاماً لم تلده أمُّهُ إلاَ دقائقَ
في إناء الموز.
……..
عشرون دقيقة بين السماء والأرض، مسجونة إجباريا في مصعد قديم لم تمسه يد الصيانة والعناية منذ زمن فابتلعني في جوفه، مجرد نقطة صغيرة بين ثلاثة جدران حديدية وحائط صد في المواجهة وقليل من التهوية بقدر ما استطاعت مروحة عجوز في السقف، صوتها لم يمنع تشظي الأفكار ونقط من الماضي المهشم داهمتني لتكمل الصورة العبثية وتُفرغ من روحي الوهم السعيد الذي يستدرجني في دوائر الزبد.
صدقت روحي وإن لم تعد تمتثل للجسد الذي يلتصق بالجدار ويستسلم للسدى، البعيد قريب من الروح يصنع إيقاعها بالرغم من تباطؤ الدقائق ومن جسد يضيق به المكان ويبعثره على حجر، وينسدل الفراغ على ذكريات يحاصرها البياض وتندثر دون أن تترك وصاياها لنفس حفر فيها التاريخ مجرى الجراح ولا تتيبس، فمع كل منحنى مكسور تصوغ حالها من الحطام وتحارب وحوش الكهوف مثلما شاءت حتى لا تدخل جمهورية النسيان.
باب المصعد اختفى، هو الباب الذي عزلني عن الخارج. الباب الذي أغلق في وجه هذا الخارج لتنفتح بداخلي أبواب الحكايات، ويتسلل من فتحة السقف الصغيرة في هذا المصعد؛زنزانتي العابرة ومنفاي المفاجيء، خطاً من الضوء يسبح فيه الخيال وتفاصيل أمي وأشياؤها البسيطة: حبل غسيل وخيط مجرور وإبرة طويلة تنسج وإبرة قصيرة ترتق المقطوع من الثياب وكوب شاي بجوار راديو ترانزستور يصدح بصوت أم كلثوم في الساعة الخامسة من كل يوم، ثم تتوالى أغاني الحب العربية التي تجعلنا نجهش بالبكاء دون عناء، وقطار سريع يمر على بلدتي الصغيرة ويفوت رصيفها الدافيء فتخون الدموع عيناي ولا تنزل أبداً لتصطاد فتات الحنين التي يئن بها القلب ويصهل أملاً في عناق غير متمهل قبل الوداع السريع واشتهاء التوهة والحجل بين أغلفة المجلات الملونة على أرصفة وسط البلد، فلا هي تُعطينا ولا توقد فينا جذوة الحلم ولا تنجينا من كوابيس الغد، فانتازيا الأنين وراء الباب الخفي، المنغلق، العازل، الخاسر،الرابح،الناقص، الكامل النسيان. باب هو مسودة الغياب دون شرح للأسباب أو للفكرة، فلم يحن بعد آوان جمع الأشلاء ولا حاجة أصلاً للمعرفة أو المغفرة أو تغيير الإيقاع، فههنا يتوقف كل شيء في لحظة لا تحتمل سوى السخرية، فيما هناك من يمشي في شوارع وسط البلد سعيد بغربته وآخر يفيض فقره حتى يكاد يغطي على كل لافتات انتخابات البرلمان، مستسلماً للتداعي كما ينبغي أن يكون كبائس لا تبكيه الهواجس ولكن يُعريه اليأس في محطات الأتوبيسات ومنعطفات تشرده على أرصفة أكلت من جلده، وكلما عسعس الليل لم يمنحه المجاز قوة الظل وإنما التباس الثنائية: الجسد والحجر.
أما أنا، فأحدق الآن في عشرين دقيقة مقتطفة من حريتي. هل أنا حرة؟! جلست وحريتي صامتتين في مواجهة جدار أسمنتي كان منذ قليل باباً، نحدق في فراغ أوسع من بلد وأقوى من خوف وأسرع من رسالة إخبارية تصلني على هاتفي المحمول تؤكد وصول مورجان فريمان إلى القاهرة قادماً من تركيا لتصوير فيلمه الوثائقى The Story of God الذي يفتش فى سر الخلق. فريمان يزور الأهرامات والمتحف المصري ويتجول في شارع المعز ويجلس على مقهى الفيشاوي ويخلع حذائه على باب مسجد الحسين وهو يبحث عن الله من أجل فيلمه الجديد، وكثيرون حصلوا على نصيبهم من التصوير الـ “سيلفي” معه، أجدني بلا غاية أبتسم وأنتظر أن يُفتح الباب الغائب ويرن اسمي كما اسم مورجان كقافية في قصيدة تتجاوز الغناء الخفيف وتمس هشاشة الموسيقى حين تتبع الوتر.