كم ختمة ختمت في رمضان؟ مازلت تتم ختمتك الأولى؟ أو أنك قد بدأت في الثانية، أو ربما الثالثة.
حين سّن الله شهر رمضان كشهر للقرآن واصطفاه ليتنزل فيه بالآيات على النبي-صلى الله عليه وسلم- أصبح الاهتمام بالقرآن في هذا الشهر الفضيل أكثر من بقية الأيام التي قد ينشغل ويتخاذل فيها الانسان، لكن هل المطلوب منك هو قراءته فقط؟ هل ستحرز نقاطاً حين تقرأ- كالحمار يحمل أسفارا- لمراتٍ متعددة، ثم تعيده للمكتبة بعد مرور الشهر، أو ربما تقرأه مجددا بنفس الطريقة؟
سألتني أختي الصغيرة عن السبب الذي يدفعنا لحفظ القرآن غيبا ولماذا لا نكتفِ بقراءته، كانت إجاباتي بأن في هذا الكتاب دستورا لها كمسلمة، يحمل حقوقها وواجبتها. وعليها -إن أرادت- أن تفهم وتحاج وتناقش وتطلب حقوقها، فعليها حفظ الآيات غيبا في بعض الأحيان، وفي الأغلب عليها أن تتأمل الآيات.
بالنسبة لي أحب أن أعتبر القراءة منه حديث خاص بيني وبين ربي الذي اخترت عبادته، لذلك حين تضيق الدنيا أو يثقل عليا فهمها أسأله وابحث عن الإجابة بين الآيات، استدلالا على كلامي، سأتحدث معك عزيزي القارئ عن الصفحة السابعة والستين في سورة آل عمران، والتي يمكن أن تختصر لك كيف يمكن أن تعيش هانئا هنا؟
أن تكون من المتقين:
“وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ” 133
يبدأ الله حديثه بترغيب في النتيجة، مغفرةٌ وجنة! أقصى ما يمكن أن يتمناه المسلم بأن تغفر زلاته ويرزق بالجنة، لمن؟ للمتقين، من هم المتقون؟
انفق، اكظم غيظك، اعف:
“الَّذِين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” 134
في ذكر الانفاق لم يحدد ما هو وجه النفقة، يمكنك أن تنفق من أي من النعم التي أعطاك الله، مثلا فإن العلم نعمة وإنفاقك منه بأن تفيد به غيرك جزء من الانفاق الواجب عليك، لم يحدد الله مما تنفق؟ لكنه اشترط أن يكون الإنفاق في الفرح والحزن، بعض الناس يكفر في الحزن، فتجده إن أصابه الحزن غضب وسخط فيتناسى الانفاق، والبعض الآخر يكفر في الفرح فتجده لاهيا بفرحه متناسيا الانفاق، لذلك تجد الله يسّن بعض الصدقات في أوقات الفرح كعقيقة المولود، ووليمة العرس. وبعضها في الحزن كصدقة دفع البلاء، وصدقة دفع المرض. ماذا بعد أن تنفق؟ “والكاظمين الغيظ”، شخصيا كبرتُ في كنف رجل يعرف كيف يكظم غيظه، شاهدتُ والدي مرارا وهو يبتلع غضبه ويسيطر عليه حسب الموقف، وحين يقوم شجار ما حوله دائما ما أشاهده يفصل بين المتشاجرين، أما أنا فلم أندم على شيء ارتكبته يوما في حياتي إلا وكان الغضب سببه، إن استطعت أن تدّرب نفسك على كظم الغيظ وقتها يمكنك أن تضع قدمك على أول خطوات التقوى، لكنه أتبع كظم الغيظ بشرط أساسي، “العافين عن الناس”، العفو هو أقصى درجة من درجات التسامح، هل تستطيع أن تعفو؟ هل تستطيع تجاوز الإساءة بعد أن تكظم ردة فعلك الأولى، بأن تعفو عنها وتنساها! يختم الله حديثه بأنه يحب المحسنين، إشارة إلى أنه ليس من السهل الالتزام بهذه الصفات، ففيها من جهاد النفس ما فيها ومن يفعل هذا، فهو يقترب من دائرة الإحسان. فإن انفقت وكظمت غيظك وعفوت، تكن من المتقين المحسنين.
“والَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ” 135
في هذه الآية استكمال لوصف هذه الفئة، لم يقل الله إنهم لا يخطئون، بل أكد على أنهم قد يصيبون من الفواحش وظلم النفس كأي نفس بشرية، لكنهم يستغفرون! ولم يصّروا على ما فعلوا! أنا مقتنعة أن أغلب مشاكل البشر يمكن حلها في هاتين النقطتين:
لا تصّر على الخطأ.. اعتذر عنه.
“إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” 140
بعد أن وصف الله المتقين، ووصف جزاء إحسانهم في الآيات التي تسبق هذه الآية، كانت هذه الآية نهاية القصة.. اختار الله لفظ “قرح” كتعبير يشبه كل ما يمكنك تخيله من سوء قد يمسك، هل مسكم الظلم؟ الحزن؟ الابتلاء؟ عند هذه الكلمة وجدتني دون وعي أقول: أجل يارب والله قد مسّنا، فقد مسّ القوم قرح مثلكم! لماذا يمكن أن يريحني أن يصاب غيري بمصيبة تشبهني؟ منذ أيام كتبت صديقتي على حسابها – على سبيل التفاؤل الساذج- أن يوما ما سينتهي الظلم الذي نعيشه، وسنصنع أفلاما نحاكي بها هذه الفترة ونحصد من خلالها الجوائز، مثل الأفلام التي تتحدث عن الثورة الفرنسية، والحروب العالمية، وما شابهها من أفلام.
هل إن شاهدت تداول الأيام وانحسار الظلم عن غيري يمكن أن يخفف عني ما أشعر؟ خلال الثورة المصرية الأخيرة، أتخذ الله الشهداء الذين عرفّوا عن أنفسهم دائما بأنهم مؤمنون، ماتوا دون إيمانهم، فحفظهم الله بوعده في مرتبة الشهداء، وتركنا نحن الذين لم نصل بعد لهذه الدرجة من الإيمان، لكّن الله ترك لنا إشارة خلال هذا الابتلاء الذي نعيشه.. دستور نستمر عليه: “الله لا يحب الظالمين”، كيف يمكنك الخروج من هذا النفق المظلم دون أن تتلوث؟ لا تظلم.. كيف يمكن أن نرتقي بإيماننا؟ لا تظلم.. إن الظلم مفتاح كل الشرور والآثام.