ولطالما صابرتُ ليلاً عاتماً…. فمتى يكونُ الصبحُ والإسفارُ
أبو العلاء المعري
بقلمها ترسم حكاياتها التي تبدأ كل صباح.. ولا تنتهي غالباً بحلول المساء، تحكها مقالاً في صحيفة أو في موقع إلكتروني على شبكة الإنترنت، أو تحكها تعليقاً ساخراً مكثفاً بعامية مفعمة على صفحتها في الفيسبوك، ترفق حكاياتها اليومية بصورها الضاحكة دائماً.. الشقية دائماً.. ضحك وشقاوة كشقاوة أطفالها الثلاثة حمزة وسارة ونور.. شركاؤها في صور البهجة، صور مدهشة.. وكذلك مندهشة دوماً دهشة طفولية، الشقاوة لا تقتصر على صورها وصور أطفالها.. بل هناك كذلك صور “نصرو”.. زوجها وحبيبها، هذه لقطة له وهو ينظر بعيداً جداً داخل الصورة، إلى أين يرسل تلك النظرة؟!
تشرح حنان في حكاياتها – حكاية تلو أخرى – بعض ملابسات الحادث المروع الذي ذهب بذاكرة حبيبها.. وجعله ينظر بعيداً في الصورة كل تلك المسافة، تناشده العودة في مقالاتها.. وتطارده بالرجاء أن يتذكر وعوده لها، تسنده وقت التقاط الصورة.. إذ لم يعد يمكنه أن يقف وحده دون مساعدة، تسنده وتحيط كتفيه بذراعيها لتسبغ عليه اسمها وهي ترسل إلى عدسة الكاميرا – كما تفعل دائما – هذه الضحكة الساحرة، يتكئان في الصورة على حافة شرفة تطل على عالم مزدحم بأشياء أخرى.. لا تشبه الأشياء التي تزدحم بها صورتهما.. وحياتهما، من وقتٍ لآخر تلمح ظلاً في حكاياتها يبدو كما لو كان تجسيداً يونانياً لآلهة الحسرة.. لا تعلن الحسرة.. لكنها تنثرها بين صفاته التي تتلوها تباعاً في حكاياتها، كان مناضلاً ونشطاً ومفعماً بالحياة ومعبئاً بخيالات النضال والثورة والحب.. وكان ينتوي كتابة روايات يغير بها العالم حين يبلغ سن النبوة.. العالم الذي يرسل إلى أفقه السحيق الآن تلك النظرة.. فتصل هناك ولا تعود.. وهو متكئاً على جدار تلك الشرفة تسنده وتثبته.. ضحكة حنان..
ضحكة حنان تنسج خيوطاً صلبة تكاد تراها حين تقترب من محيط تلك الأسرة الصغيرة المدهشة، لم يستطع حتى السرطان اللئيم أن يوهنها، تضحك حنان حتى وهي برأس تساقط عنه تاجه بفعل الدواء الكيماوي اللعين.. تضحك وهي تطل بجرأة على الشاشة في لقاء تليفزيوني قبيل العملية الجراحية لإزالة الورم الدخيل، تضحك حنان وهي مريضة بالسرطان، كما تضحك رغم صدمة حادث ذهب بذاكرة شريكها وحبيبها.. وذهب بخفة حركته وقدرته على العمل، وكذلك تضحك وهي تروي تفاصيل رحلة الصباح – كل صباح – إلى المستشفى، تضحك وهي تلتقط صور “السيلفي” لنفسها وشعرها بدأ بالنمو بعد توقف العلاج الكيماوي.. الصور السيلفي تروي عنها الكثير.. هي هنا في سرير المستشفى تتلقى علاج ما بعد إزالة الورم اللئيم.. وهي هنا ترفع يدها لتلتقط لنفسها صورة علوية وهي تخضع للتحاليل.. تلك التحاليل الرتيبة التي تفتش كل يوم عن ورمٍ آخر.. قد يتسلل ذات ليلة في الظلام إلى زاوية أخرى في جسدها المقاوم، ولا تنسى أن تكتب مقالاً عن الممرضات والكانيولا وعينات الدم والأسّرة البيضاء التي صارت تألفها.. وكادت بسبب التردد اليومي عليها أن تنسى أن هناك في عالمنا ملاءات ملونة ومنقوشة بالورود والقطط والأشجار.. كانت أمهاتنا تلف بها فراشنا ونحن صبايا، وهنا هي تلتقط لنفسها الصورة وهي أمام صحن الخضروات حين قررت أن تكون نباتية لتبتعد عن عالم آكلي اللحوم المتوحشين.. ثم وهي ترافق زوجها وهو في سرير آخر لأجل جلسات العلاج الطبيعي البطيئة، ذلك النوع من جلسات العلاج الذي يحتاج صبراً بحجم كوكب قبل أن ترى له نتائج.. ويحتاج موائمة مع النفس بحجم كوكب آخر كي تصدق أنه سوف يأتي بنتائج، وهذه لقطات ومعها حكايات أخرى كيف تدرب أطفالها على العناية بأبيهم إذا كانت هي في المستشفى.. أو العناية ببعضهم البعض حين يكون الأب والأم كلاهما في المستشفى… صارت المستشفى سكناً لا تستغربه حنان ولا يستغربه الحبيب التائه ولا يستغربه حتى الصغار.. الذين شحنتهم ضحكة حنان بقدرة هائلة رغم الطفولة على التعامل ببساطة وتلقائية مع الألم والضعف والمستشفى والأدوية.. وحالات الوهن التي تكون عليها حنان بعد تلك الجلسات التي لا تنتهي، ترسل حنان في واحدة من تعليقاتها الضاحكة على الفيسبوك تكثيفاً لهذا النوع الصعب من الحياة: “أنا ونصرو والعيال بنصنع ذكريات هنا في المستشفى”، تكتب التعليق وترفقه كما تفعل دائما بصورة ضاحكة.. هي ليست ضحكة كالبكا.. هي ضحكة حنان! هذا نوع جديد من الضحكات.. ضحكة حنان
تضحك دائما رغم كل تلك القسوة.. صحيح.. لكن هذه اللحظة الرهيبة التي تأتها من وقتٍ إلى آخر لتقبض عنها ضحكتها.. ضحكة حنان.. فتكتب في الفيسبوك دعاءاً لرب السموات أن إبعد عني اليوم يارب شياطين الحزن، أو تمس من بعيد – وبحذر- عباراتٍ عن الموت الحائم على ناصية شارع قريب.. ترسل فيضاً من عبارات صوفية: ياالله مالي وكيل سواك، تشعر أنت بألمها وتحس أنت بأنينها المكتوم دون أن تحكه هي صراحة.. تستشعر لومها للحياة التي وضعت في حجرها وحدها آلاماً كانت مخصصة لأمة بأكملها.. لا تسمع أنت منها كل هذا.. حنان لا تحكه أبدا.. لكنك ستحسه وتراه وتلمسه وتشمه.. هي فقط تضحك ضحكة حنان وترسل نكاتها وسخريتها من صداقة المرض لأسرتها.. لا تحكي الألم ولا تئن.. لكنك أنت ترى في الضحكة والنكتة والتعليق الساخر واللقطة الحلوة.. أنيناً بحجم جبل! لن تسامحك أبداً إن رق قلبك من هول قسوة الحياة عليها فأشفقت عليها.. حذار! حاذر دائماً من زلة الشفقة مع هذه المرأة وانتبه لسلاحها الرهيب.. ضحكتها، ضحكة حنان!
تتابع حنان المسلسلات وتحللها.. وتكتب عن إبداع هذا الممثل وتلك المخرجة وتنتقد الأداء السيء في هذا الفيلم ثم تدلي بدلوها حول أخبار مصر البائسة دوما.. بالطبع بائسة فأخبارنا كلها عن أناس مصريين يظلمهم أناس مصريون آخرون.. إن لم يكن هذا هو البؤس فماذا عساه أن يكون؟ تتعاطف مع مريم التي سرق أحدهم أوراق إجاباتها.. في حالة فساد عفن يتواطؤ على الصمت حياله الجميع لكن حنان تغضب لمريم، تنتقد أداء العسكر السيء في الحكم.. ثم تتصدى بقوة للناس العاديين الذين يوبخونها لجرأتها في نقد نظام حكم رديء، طبعاً.. جدير بصاحبة تلك الضحكة غير العادية أن تتصدى لهؤلاء العاديين، ترفض تخلف السلفيين الذي ابتليت به مصر ثم تعرب عن أسفها لمسبحتها التي كسرت.. وتعرب عن تشاؤمها وهي تنقل بوَجَل مكتوم خبراً مؤلماً.. عن زجاجة مسك كانت تحبها و.. انكسرت!
هكذا إذن، تحكي “حنة” – كما يناديها أصدقاؤها – عن “الفرح المستعار من زمن مضى”.. عن ألم لزج صار يحبها ويحب أسرتها من طرف واحد إلى درجة الإلتصاق بها فرداً فرداً.. لا يتزحزح بعيداً عنهم ولو لاستراحة منهم أو.. منه، تطارد بلا يأس “البهجة العادية” لكن البهجة العادية قررت بمنتهى القسوة أن تتمنع على أسرتها الصغيرة.. فتقرر حنان أن تبتهج هي ابتهاجاً حراً مستقلاً! تتسلق شجرة وترسل من أعلى نقطة فيها ضحكة أخاذة.. إلى عدسة كاميرا يحملها أحدهم أسفل الشجرة، تصنع قناعاً ملوناً تخفي به عينين نجحتا في إرسال ضحكتهما من خلف القناع.. لتتلقفها عدسة كاميرا ثبتت هذه اللحظة من الزمن.. زمن حنان الذي تقاوم انسيابه من بين يديها، تشتكي بدلال على صفحتها في الفيسبوك من سخافة وغلاسة مهمة تجليد كراسات الأولاد عند بدء العام الدراسي.. لكنها كاذبة! يفضحها فرحها بعام دراسي جديد يأتي على صغارها وهم في حضنها وهي لا زالت بعدْ ف حضنهم.. تخفي قلقها من المستقبل البعيد.. تتمنى أن ترى سارة عروساً ونور عروساً وحمزة عريساً.. ثم تمضي في جرأة مستحقة فتتمنى أن ترى أحفادهم، صديقتها ترسل لها صورة من مجلة ما لمجموعة من العجائز يرتدين الفساتين المزهرة المبهجة.. ويضحكن بسعادة وهن جالسات على أريكة في حديقة عامة.. تشي الصورة بأنهن يتبادلن الذكريات عن أيام الصبا والشقاوة.. ترسل حنان على الفيسبوك تعليقاً.. تراه بعينيك لكنك تسمعه! تحس أنها تقوله بصوت منخفض خجول مرتجف: نفسي أكون زيهم! تتمنى حنان أن تصبح عجوزاً تتبادل ضحكات مع صديقاتها العجائز.. يُعلق أصدقاؤها الذين يحبونها حباً جماً ويعجبون بقوتها وضحكتها إعجاباً كبيراً ويشعر بعضهم أمامها بالضآلة.. يقولون لها.. سوف تكونين عجوزة كركوبة، تبتسم حنان وترسل ابتسامتها عبر رسمة الوجه المبتسم التي تتيحها لغة الفيسبوك! من أين تأتي هذه المرأة الشابة الجميلة بكل ذلك الصمود؟ تشعر حنان بالجميع.. منذ بدء علاقتها بالأصدقاء حسمت طبيعة العلاقة.. لا شفقة لا مواساة.. بل مرح وضحك وبهجة حرة مستقلة ومقاومة.. فإذا صحت ذات صباح لتجد قضبان الحزن وقد بدأت تنبت حول بيتها لتحاصره.. ترسل ضحكتها فوراً لتكسر تلك القضبان اللعينة.. ثم تبدأ مسيرتها اليومية.. العمل في مهنتها الشاقة الصحافة المتعبة المجهدة ثم المستشفى – مستشفى لها وآخر لزوجها – ثم مدارس الأولاد ثم شقاوات الفيسبوك، ثم حربها على شياطين الحزن والأسى والرجاء.. وطقوس استدعاء الفرح ولو مستعاراً من زمن مضى ثم.. لن ترى منها دموعاً.. هذا مؤكد.. غالباً تحتفظ بها لنفسها وتحرمها بحسم على الأصدقاء وعلى نصرو وحمزة وسارة ونور.. الدموع لها وحدها، أما نحن.. فلا نرى مع كل صباح يجمعنا معها أو مساء سوى هذه الضحكة.. ضحكة حنان.