اليوم : الاثنين 17 اغسطس 2015

ذات يوم استمعت بالصدفة لبرنامج إذاعي يستضيف شيخا أزهريا يتحدث عن سماحة الإسلام، وفي سياق حديثه قال: “صلاح الدين الأيوبي ذهب بالدواء لريتشارد قلب الأسد خلال حربهما”.. حسنا، الظريف في الأمر أن كلا من صلاح الدين وريتشارد لم يلتقيا أبدا في حقيقة الأمر، بل كان الحوار بينهما يدور عادة من خلال وسيط أو ممثل عن صلاح الدين.. فضيلة الشيخ الأزهري إذن استقى معلوماته من فيلم “الناصر صلاح الدين” للمخرج الفذ يوسف شاهين، والذنب ليس على يوسف شاهين، بل على الشيخ المحترم الذي لا يعرف الفرق بين الدراما والتاريخ!

وعلى موقع الفيسبوك، هل يعلم القاريء كم اتعثر يوميا في “بوستات” تروي أحاديث منسوبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- أو مواقف المفروض أنها تاريخية أو معلومات مقتضبة بطريقة “هل تعلم” أو “موقف وقع لرجل حكيم أو لأحد الصالحين”، وهي من أولها لآخرها مختلقة؟

وأما عن “التاريخ المحشور في الخطب والدروس الدينية، فحدث ولا حرج، فيوما ما سمعت خطيب الجمعة يقول: “قال سيدنا الحجاج بن يوسف الثقفي رضي الله عنه…” الحجاج؟! سيدنا؟! ورضي الله عنه؟! ماذا عن الشيخ الذي كان يروي قصة عن معاوية بن أبي سفيان ونائلة بنت الفرافصة -أرملة عثمان بن عفان- وأن معاوية عرض عليها أن “نعيش لنا يومين” -كما قال راوي القصة- فكان ردها: “ياللي انت غاوي الجمال روح الترب واتطلع تلقى الجمال بقى رمم والعضم متخلع”؟ هل تضحك؟ إنها مأساة! كوميديا سوداء!

هذه ليست من مشاكل تناول موضوع التاريخ بل هي من مصائبه.. التاريخ المعلب الجاهز.

……….

لا عجب إذن أن هناك من يصدقون الروايات عن أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي أو عن انحدار الرئيس  السيسي من أصول يهودية واشتراكه في مؤامرة ماسونية كبرى، أو أن دكتور البرادعي مسئول عن غزو أمريكا للعراق، فالتاريخ أصبح ملطشة لكل من هب ودب.. والقوالب قد نامت وشخرت، بينما قامت الأنصاص ونشطت، أو كما قال نجيب سرور في تساؤل لاذع “اللحس ليه انتشر؟”.. واعتقد أنني في غنى عن إكمال العبارة!

المكتبة التاريخية المصرية زاخرة بالكتب -تراثية ووسيطة ومعاصرة- في مختلف جوانب التاريخ ومختلف حقبه، ومع ذلك فهناك دائما ذلك البجح الذي تواتيه الجرأة على اختلاق الوقائع وصياغتها بشكل يعلم الله وحده ما هدفه، لأنه -البجح- يعلم أنه سيجد دائما ذلك الأحمق الذي يصدقه ويتداول مع حمقى آخرين أكاذيبه واختلاقاته.

نحن هنا لا نتحدث عن تزوير التاريخ بغرض خدمة مصالح سياسية أو أيدولوجية، فعلى الأقل هذا النوع من المزورين لديه الحد الأدنى من الذكاء ليتقن جريمته، لكننا أمام واقعة ينطبق على مرتكبها وصف “متآمر وأحمق”!

هو ليس ذلك الوغد البارع الخبيث الذي يمارس تآمره في الغرف المغلقة وهو يبتسم بشر ودهاء، بل هو ذلك “الزياط”، الذي يستغل حالة الزيطة العامة في مجتمعنا المصري السعيد!

المشكلة أننا لم نتعامل مع هذا النوع من الاعتداء على التاريخ بجدية، إلا عندما انتشر وتفشى وتحول من حالات فردية مثيرة للسخرية والاستهزاء إلى ظاهرة ذات طول وعرض وارتفاع، فاكتشفنا متأخرين أنها كارثة كان ينبغي التعامل معها بحزم منذ بدايتها بطريقة “اقتلوه قبل أن يتكاثر”.

……….

هذه البضاعة العفنة لم تكن لتلقى رواجا لو لم يكن لها زبونها، فلكل حبة فول فاسدة كيالها الأعمى، فنحن منذ تحولنا إلى قوم لا يقرأون صرنا نهبا مباحا لكل نصاب يجيد صياغة أكاذيبه بشكل يستفز الحماس الديني أو الوطني فيصيغ كذبته بطريقة تداعب هاتين العاطفتين، فتجد أذنا صاغية وعينا منتبهة وشفاه يمصمصها صاحبه طربا وهو يقول: “يا سلام”، ويسارع بنشرها وإرسالها لعشرة لتعم الفائدة ويقرأها غيره، فينشرها متحمسا وهكذا، حتى يصل هؤلاء المغفلون للأورجازم التاريخي الوطني والديني بفعل الحبة السحرية التي اخترعها أحدهم لتغني البشرية عن التعب في القراءة والبحث والتوثيق والتحليل.

فيما إذن كانت قرون من الإبداع التاريخي.. تأريخا وتحليلا وتفسيرا ونقدا؟ هل نلقي مؤلفات مانيتون وهيرودوت وابن تغري بردي وابن خلدون والجبرتي وغيرهم في صفيحة القمامة طالما أن لدينا عباقرة معاصرون يقدمون لعقولنا البديل السحري؟ لا عجب إذن ألا تقوم الدنيا لما جرى منذ سنوات من هدم وتجريف قبري ابن خلدون والمقريزي بالقاهرة،  فلو كنا في مجتمع يحترم العقل ما كان هذا ليكون مصير علم التاريخ، تجريف لقبور المؤرخين ثم تجريف لعقول الناس.

والحل؟ لقد صار هذا مملا.. فمن لا يرى من خلال الغربال، أعمى! وبعض المشكلات يتلخص حلها في “شايف ده؟ ما تعملش زيه”.. دون كثير ثرثرة ولغو.

………..

ولنترك هذه المشكلة جانبا -إلى حين- ولنتناول مشكلة أخرى، هي ذلك الاتهام الدائم لصناع الدراما التاريخية أنهم يشوهون التاريخ.

(يتبع) 

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان