اليوم : الأربعاء 29 إبريل 2015

قد يكون أحد أسباب دخولي كليه الطب هو انبهاري الطفولي بصورة الطبيب في السينما المصرية.. ذلك الرجل الوقور الذي يدخل على المريض المستلقي في سريره وسط أهله المعلقة عيونهم بذلك الساحر الذي يحمل في يده حقيبة بها علاج لجميع الأمراض.. ينتظرون منه كلمه بفارغ الصبر، ليرد عليهم بعد طول انتظار بكل ثقه وهدوء: “لا لا.. متقلقوش دي حاجه بسيطة.. ياخد بس العلاج ويبقى زي الفل إن شاء الله”

جمله بسيطه تلتهب بعدها الحناجر بالشكر والتقدير لذلك الرائع الذي بث الاطمئنان في قلوب الجميع.

كانت بدايتي مع أول كشف منزلي.. امشي بهدوء منتقيا خطواتي بعناية، وأحد الصبيه يتناول مني حقيبتي السوداء باهتمام شديد، ويهرع خلفي داخل المنزل.. عفوا “فلمنج”، فاختراعك للبنسلين الآن لا يعنيني على الإطلاق، فإنني مقبل على ما هو أهم.

سألت بهدوء:

فين الحالة يا جماعة؟

اتفضل معايا يا دكتور.

في منزل يشبه المتاهة، أخذت اسير خلف محدثي ملقيا التحية على العديد من الرجال الذين يشبهون ذئاب الجبل، فعلى ما يبدو أن المريض على قدر عال من الأهمية.. كبير عائلة أو ما شابه.

وبعد ربع ساعة من السير والمرور بالعديد من الغرف وحوالي 5 دورات مياه، وصلنا أخيرا إلى غرفة واسعة يرقد بها شيخ طاعن في السن على فراش واسع ذي أعمدة ذهبية على ما يبدو أنه ينتمي لمقتنيات الملك توت عنخ آمون.

كان هذا الرجل المسكين محشورا وسط أكبر تجمع من السيدات المتشحات بالسواد.. حتى إنني كنت اجاهد لأجد موطئا لقدمي.

اقتربت بهدوء يليق بطبيب محترف، متحاشيا قدر الإمكان تفجير معدة أي من تلك النساء اللائي يفترشن الأرض.

ربتت على يد الرجل المعروقة بادية الشيخوخة برفق قائلا: خير يا حاج.. مالك؟

ارتدت يدي إلى جواري على الفور، فكأنما لمست لوحا من الثلج.. نعم.. لقد مات الرجل وشبع موتا، وأغلب الظن أنه يحاسب الآن.

بمجرد أن لمست الرجل، بدأ ألف تساؤل:

خير يا دكتور.. خير يا دكتور؟

نبض في المعصم.. لا يوجد.

خير يا دكتور.. خير يا دكتور؟

نبض في الرقبه.. لا يوجد.

خير يا دكتور.. خير يا دكتور؟

قياس للضغط.. لا يوجد.

بخار الزفير على مرآه صغيرة.. لا يوجد.

خير يا دكتور.. خير يا دكتور؟

الحدقتان متسعتان ولا تستجيبان للضوء.

خير يا دكتور.. خير يا دكتور؟

اسقط في يدي! محاولا أن اقيم الموقف للخروج منه بأقل قدر من الخسائر. ..

 

سأطلق ساقي للرياح، لكنني سأتوه داخل هذا المنزل، وقد تمر علي 5 سنوات قبل أن استطيع الخروج بلا مرشد.. ناهيك عن الصراع المحتوم مع ذئاب الجبل الذين سيفزعون لرؤيتي اهرب بهذه الصورة.

لمحت بطرف عيني شباكا واسعا يطل على الحرية.. بحسبة بسيطة، أدركت أن سرعة القفز للطبيب العادي لا تتعدى نصف متر في القفزة، وقد اسقط وتنكسر رقبتي إذا استطعت أصلا الوصول إلى الشباك قبل أن تلتهمني نساء الغرفة المتشحات بالسواد.

توجهت إلى الجميع بالحديث قائلا:

خير يا جماعه إن شاء الله.. نسيت بس جهاز قياس السكر في العربية.. حد ييجي معايا اخرج أجيبه.

وبمجرد وصولي إلى باب السيارة، قمت بفتح الباب وإدارة المحرك، ثم خاطبت مرافقي بهدوء قائلا:

أنت راجل مؤمن، والحاج كان مريضا، وربنا يرحمه.. شد حيلك البقاء لله.

مااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااات! مولولا بأعلى صوته، لينتقل الخبر بسرعه الصوت وتتردد الكلمة آلاف المرات.. مات مات مات مات مات!

ويبدأ صوت المتشحات بالسواد مدويا في الفضاء كسارينة ألف سيارة إسعاف يصم الآذان بقوة 4000 ديسيبل، لتكون هي إشارة الهروب.. اقفز بعدها في سيارتي منطلقا بأقصى سرعة، مثيرا خلفي عاصفة من التراب.. حانقا على ذكريات الطفولة السينيمائية اللعينة.

 

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان

اعلان