اليوم : الثلاثاء 31 مارس 2015

منذ حوالي خمس سنوات وشوية, كنت دكتور امتياز في القصر العيني.. في ليلة غابرة, كنت أنا ومصطفي صديقي نبطشيين الساعة تلاتة الصبح, وشبه غائبين عن الوعي.. متلازمة السهر لوقت متأخر, وتعلق عينيك باللمبة الفلورسنت في سقف أوضة الطوارئن وتأوهات المرضى مختلطة بالضحك الأنثوي المائع قليلا لممرضة شابة, وكمية كافيين مرعبة تنسكب رغما عنك في سقف حلقك, فقط كل يظل جفناك محتفظان بشكلهما الآدمي.. المحصلة مرعبة الحقيقة.

الساعة تلاتة وربع دخل علينا الراجل ده.. أسمر اللون هو.. تلك السمرة المحببة لأبناء شمال الصعيد, يرتدي قميصا بسيطا وبنطالا اختلط لونه الفاتح بدماء صاحبه الطازجة, له شارب ضخم لطيف, وكان مرحا لين العشرة، رغم أنه جريح بعنف.

جروح مقيتة جداً استقرت بمحيط رأسه, و يكفي أن تعلم أنه تم إحداثها بمنجل تقطيع موز على يد قاطع طريق، وكان لازم أشعة مقطعية فورا, إلا أن الدم الذي كان ينز من مقدمة رأسه كالمصفاة, أجّل هذا القرار لما بعد حياكة فروة رأسه.. خاصة أن الرجل واع ومدرك تماما , ولم يقذف محتويات معدته بعد أو يبدأ الهلوسة المعتادة.

في لحظة خاطفة قررنا بغتة, دون اتفاق مسبق, أننا اللي حنخيط دماغ الراجل, لوحدنا ودون استدعاء نائب الجراحة.. تذكر أننا أطباء, وما يثير تعاطفك قد يثير شهيتنا، خاصة أننا مولعين بالشق الجراحي ونقدر على فعلها منفردين، وحاولنا أن نسيطر على الرعشة المدمرة العابثة بأجسادنا, وسّمينا وبدأنا.

للأطباء عادة سخيفة, وهي التحدث بالإنجليزية في حضور المريض لقول ما نريد قوله دون المخاطرة ببث الرعب أو التوجس في نفسه, عادة سخيفة هي, لكن هذا هو ما يحدث، وشجعتنا ملابسه البسيطة ولكنته الجنوبية أنه لن يفهم ما نقول.

بعد ما بدأنا قليلا, وأنا ومصطفي بنخيط ونتكلم ونتسند على بعض, رفع الرجل رأسه ونظر لي نظرة حادة, وأرجع رأسه للوراء وأغمض قائلا: اهيفغهعلا شالفعهخوييييعاقيبرلالا سووو كولسامهولافكوووولما.. هذه هلوسة لا شك, المريض قد انزلق في هوة النزف المخي دون علمنا.

كان المشهد جديرا بالتأمل.. أنا ماسك الآلات في يدي متسمرا تماما.. العيان بيخطرف بكلام يقترب من طقوس طرد الأرواح الشريرة, مصطفي بيصرخ: يا نهار أسود ومنيل! يا نهار أسود ومنيل!

فتح الرجل عينيه واعتدل بثقة وقال: حاجة لازم تتعلموها يا دكاترة.. متحاولش أبدا تقلل قدرات خصمك.. قبل ما تصيع على حد، لازم تعرف أوّلك فين وآخره فين.. ثم ابتسم وأكمل: أنا بتكلم 8 لغات بالمناسبة، وعندي بازار في الحسين, و ده كان بولندي مش خطرفة.. ملوش لازمة الإنجليزي, والصياعة أدب.

ثم أسجى جسده مجددا على الشيزلونج متابعا: معلش لو ضايقتكم, تقدروا تكملوا شغل.

بعدما ضحكنا من ضحالة تفكيرنا ومنظرنا قدامه, كملنا شغل وكلام بالعربية تماما هذه المرة، وخلصنا، وعمل الأشعة المقطعية وطلع سليم الحمد لله.. وودعناه بصدق وحميمية حقيقية, واختفى من حياتنا للأبد.

الراجل ده, برغم إني مش فاكر اسمه ولا شكله إلا طشاش, إلا أني بافتكره كتير جدا.. بافتكره لما اسمع التنظيرات المختلفة من مؤيدي القرارات الجوفاء.. بافتكره لما أقرا مقال ضحل يحاول يصور شيئا مأساويا في صورة شئ واجب لابد منه لمنع سقوط راية الوطن, أو حتى بتفرج على لقاء من اللقاءات القديمة لهذا “المفكر” أو ذاك، وهو يشرح للعامة ما غاب عنهم باعتبارهم أطفال الأمس لا يفقهون شيئا.. مقدرش اقول غير إن الراجل ده, بجملتين بولندي, علمني كتير جدا.. ما قد ابذل عمري لأتعلمه دون فائدة, و دون إنجاز. شكرا لحضرتك.. على كل حاجة.

 

 

تعليقات الموقع

أحدث الأخبار

الأكثر مشاهدة

الأكثر تعليقا

النشرة البريدية

تابعنا على فايسبوك

اعلان